محمد مهر الدين / المشي على نهر من جمر

 

مي مظفر

 

قيل لي إن محمد مهر الدين كان الطالب الأكثر قربًا من أستاذه فائق حسن، عندما كان يدرس في معهد الفنون الجميلة (1956-1959). ولدى حصوله على بعثة دراسية لإكمال تعليمه في أكاديمية وارسو للفنون الجميلة (1961-1966)، انفتحت أمامه الأبواب على عالم جديد من الحداثة والتجديد اللذين لم يكونا مألوفين لديه بذلك القدر من الانفتاح والابتكار والحرية. وفي بولندا أيضا، شهد من الإبداع الحر والخروج على القواعد التقليدية لفن الرسم عموما ما وضعه أمام طرق واختيارات تتناسب مع ميوله الفنية والفكرية ذات الطابع اليساري. فانغمر في تلك الأجواء، وبلور من خلالها شخصيته الفنية التي وجدت نموذجها في البداية لدى أساتذته في أكاديمية وارسو، قبل انفتاحه على مؤثرات أخرى، على حد تصريحاته التي يدلي بها في لقاءاته. إنه واحد من أهم فناني الحداثة العراقيين، وممن واصل بحثه الفني على مدى نصف قرن من دون تراخ، بل تعد تجربته المميزة دعامة أساسية في دفع مسيرة الحركة التشكيلية في العراق إلى ذروة الإبداع.

شملت الدراسة الأكاديمية لمهر الدين فنون الرسم والحفر والملصق poster، وهي التي اجتمعت خبراتها لديه ليستخلص منها، بموهبته الفذة، طرق بناء لوحته، وبلورة أسلوبه التجريدي في الجمع المتوازن بين الفكر المتمرد والأداء المبتكر. يوكد مهر الدين أن المؤثر الأساس في تجربته بعد أساتذته البولونيين، الفنان الإسباني تابييه Antonio Tapies الذي شهد لأول مرة أعماله في وارسو، وسحرته سطوح لوحاته التي لم يكن على معرفة آنذاك بتقنياتها.

أقام مهر الدين معرضه الشخصي الأول في بغداد (قاعة إيا) عام 1965، حيث عرض مجموعة أعمال منفذة بتقنيات الحفر والطباعة، تميزت بقوة الأداء إلى جانب الجدة في الطرح والتقنية. كان ذلك العام (1965) قد شهد مجموعة تجارب بتقنيات جديدة وأساليب حديثة في بغداد لفنانين شباب معظمهم أكمل دراسته الفنية في مختلف دول العالم شرقها وغربها. فكانت هذه الأعمال مثار الإعجاب والاستغراب معا. احتضن نتاج هذه الحركة الفنية الحيوية، إلى جانب المتحف الوطني للفن الحديث (كولبنكيان)، قاعتان فنيتان خاصتان استحدثتا لاستيعاب النشاط المتدفق والمتنوع بتقنياته وأساليبه، وهما قاعة إيا للمعماري رفعت الجادرجي، وقاعة الواسطي للمعماريين هنري زفوبودا وسعيد علي مظلوم. فشهدت بغداد دفقا من المعارض الحديثة، ذات الاتجاهات المستقلة، التي ظلت راسخة في ذاكرة الحركة التشكيلية في العراق، لكاظم حيدر وضياء العزاوي ورافع الناصري وإسماعيل فتاح الذي قدم لوحات تجريدية بالغة الجرأة. وكان محمد مهر الدين من ضمن الفنانين الستة الذين وقّعوا على بيان (الرؤية الجديدة) في عام 1969، إلا أنه لم يشترك معهم في معرضهم الأول الذي أقيم في عام 1971، لكنه شارك في بعض معارضهم التي أقيمت في سنوات لاحقة.

 

تميزت المراحل الأولى لتجربة مهر الدين بتقديم لوحات فنية منفذّة بمواد غير تقليدية، كالرمل ونشارة الخشب والحرق والتلصيق والأكريليك والجص وغير ذلك، إلى جانب الخربشة التي توحي بالعفوية لبناء سطح تصويري محض تجريدي  ذي ملمس بارز texture. وكان أول فنان يستخدم هذه التقنية mixed media في العراق، ومن أول التجارب الفنية لتقديم فن لا شكلي فيه. فإذا كان ذاك من نتائج تأثير الفنانين تابييه وروشنبرغ عليه، حسب ما يؤكد الفنان في مقابلاته، فإن المزج بين الرمزية والتجريد كان أيضا من نتاج تلك المؤثرات التي وظفها الفنان ببراعة ليستخلص منها أسلوبه الخاص. في مرحلة لاحقة تطورت تجربة مهر الدين وكشفت عن مؤثرات أخرى تجمع بين الواقعية والرمزية، خاصة ما شاع منها لدى فناني أمريكا اللاتينية، فبدأت تظهر في لوحاته الصور الفوتوغرافية، والتخطيط بالقلم، والرقع الملصقة، يدخلها في تكوينات تجريدية مبتكرة.

أعمال مهر الدين التجريدية ذات الملمس الخشن كانت مرحلة تجاوزها ليبدع سطوحا تصويرية برع من خلالها بمزج معرفياته الفكرية والتقنية معا. ففي مقدمة الدليل لمعرضه الرابع الذي أقامه في قاعة الرواق- بغداد ، يقول:"معرضي هذا يمثل نوعا من التطور بمضامين قد لا تكون مألوفة. وهو يتواصل باتجاه التطور مع المنهج الذي اعتمدته في معرضي الثالث غريب هذا العالم .. والذي حققت به نوعا من المزج ما بين تقنيات فنون تشكيلية متعددة مع نبذ ما يعيق القيمة التعبيرية لهذا المزج."

في لوحة مهر الدين نزعة إنسانية تمجد الإنسان وتجسد قلقه وأزماته، يبثها ضمن خطاب سياسي اجتماعي ذي نبرة حادة ومتمردة. مع ذلك كان الفنان أبدا حريصا على أن لا يكون خطابه السياسي مباشرا وصريحا، فكفة الفن لديه هي الأرجح دائمًا. وهو يستخدم في خطابه الفني، منذ استقرار تجربته، لغة حداثوية تتجاوز حدود الزمان والمكان الجغرافي، فجل همه التعبير عن الوضع البشري عامة، ومقاومته لحالات التعسف والظلم أينما كانت. اتخذ لخطابه المتمرد الرافض بعنف وقوة، لغة رمزية تعج بالإشارات والكتابات، المقروءة وغير المقروءة، وأمعن في التغريب والتعميم باستخدام اللغة الإنجليزية وحروفها على غرار الحروفيين من فناني الغرب letterists. فمهر الدين فنان يشعر بانتمائه إلى هذا العالم الكبير الذي يتسم واقعه بالتناقض، فتختلط فيه القيم إلى حد الفوضى، وتتحكم به المصالح السياسية على حساب الإنسان. في مثل هذا العالم غالبا ما يجد الإنسان نفسه محاصرا ومنبوذا ومستضعفا، قد يكتشف أن مسألة الوجود فيه غدت معضلة أشد مراسا وغموضا من معضلة الفناء. هكذا تبنى مهر الدين أسلوبا واقعيا نقديا كان قد توصل إليه في سبعينيات القرن الماضي، انتقل فيه من التجريد المحض إلى المزج بين التجريد والتشخيص، ومن تصوير السطوح المجسمة إلى السطوح المستوية مع استخدام الخطوط في تحديد ملامح الأشكال، واعتماد اللون قيمة مجازية أساسية. في هذه المرحلة عمد الفنان إلى إدخال الفوتوغراف لتحديد شكل الإنسان أو  تجسيد أجزاء منه بالرسم المباشر. لقد توصل إلى أن المزج بين التقليد والإبداع، وبين الرمزية والتجريدية أسلوبا، طريقا يوصله إلى تقديم أعمال تستبطن محتوى فكري متمرد، وتكشف عن مشهد فني جميل.

يستمد مهر الدين صوره وأفكاره من الواقع الذي يكشف عن مرجعيته حتى في أكثر أعماله تجريدية. فمفردات لوحاته عموما مستوحاة من دقائق يومية معيّشة. ومهما بدت الصورة مغلقة وغامضة بوسع العين المتبصرة أن تستجلي عمق الصلة بينها وبين الواقع. عن هذا المزج بين الواقعي والتجريدي يؤكد الفنان:" كان التجريد (المحض) يقيدني بالجزء، أما الآن فبوسعي أن أقول الكثير." إنها إذن رؤية ذات بعد فكري قائمة على بحث بصري لم يتخل عنه مهر الدين حتى مراحله الأخيرة، كما لم يتخل عن مواقفه الوطنية، بصرف النظر عن التفاوت في مستوى الأداء الذي كشف عنه معرضه الأخير (عمّان، قاعة الأورفلي، حزيران 2014) قياسا بذروة تجربته الفنية على مدى نصف قرن.

لا تكتفي مخيلة مهر الدين في معالجة موضوع الإنسان، محور همه وبؤرة معالجاته الفنية، بتفكيك أجزائه وإعادة تركيبها، بل يبحر عميقا في مأساة وجوده بوضع التفاصيل التي تحدد ملامحه الخارجية وتستقري هواجسه. فهو يستنفر خياله في توظيف الصور من أجل أن يكون مضمون العمل وثيقة تدين وتحاكِم، بل تتهم وتستنكر. في الوقت نفسه تسعى معالجاته الفنية إلى طرح جمالي يستبطن أسرار إشاراته ويوصل تعبيره من خلال مجازات اللون والإشارات والأرقام والسطوح المستوية المعالجة بأناة وخبرة مما يجعلها توحي بوجود منظور عميق في اللوحة على الرغم من تسطحها. ذلك أنها (اللوحة) تقوم لديه بالأساس على فهم مدروس للقواعد الأكاديمية للرسم يدخل التصميم في صلب تركيبتها وإن بدت على غير ذلك في شكلها الخارجي. ففي لوحة مهر الدين تجتمع تقنيات الرسم والحفر والتصميم وفن الإعلان (البوستر). وفي الوقت الذي تقوم فيه لوحته على نظام صارم من العلاقات الهندسية، فهي تغتني بعد ذلك بمفردات، مقصودة وعفوية، تتجاور بترابط وانفصال على نحو لا يربك سطح العمل بقدر ما يغنيه شكلا ومضمونا. إنه عالم متماسك فكرا وشكلا.

لعل الحركة والحدث هما أبرز ما يميز لوحة مهر الدين. فهو يتخذ من تناقض المفاهيم وعبثية الأقدار والأحكام مصدرا يستوحي منه الكثير لتوظيفه في العمل الفني. فدلالات الظواهر السلبية يمكن ملاحظتها في الرموز والإشارات والأرقام وقصاصات الجرائد، كما في وجوه بشر خالية من الملامح، أو أجساد بلا رؤوس، وبالتركيز على الأكف والأقدام الضخمة الحافية، وأيضا ما تتضمنه الفقرات المكتوبة (بالإنجليزية) من مغزى واضح، وغيرها من التفاصيل التي يزدحم بها سطح اللوحة. هذا الحوار المحتدم على سطوح أعماله يأتي وسط استخدام لوني مقتصد ليشكل بذاته قيمة تعبيرية تتكامل مع مفردات العمل الأخرى، وهي ألوان يغلب عليها البني الفاتح، أو الألوان الأرضية، والأزرق مع ضربات جانبية عفوية بلون صارخ كالأحمر أحيانا. بهذه التقنيات المدروسة يتوصل مهر الدين إلى تقديم لوحة متوازنة. ففي الوقت الذي نرى فيه وجود حدث رئيسي على السطح يستقطب العين، تميل التفاصيل المحيطة به إلى إشارات مجردة تعزز في اللوحة أبعادها الجمالية الشعرية.

من يقف أمام أعمال مهر الدين، خاصة تلك التي نفذها في بغداد وفي ذروة الأجواء السياسية الضاغطة تحت عيون الرقيب الحادة، يشعر وهو يتبحر في التشكيلات المتضادة وتشابك الخطوط والصور والكلمات – بل الجمل الطويلة أحيانا – أن الفنان يبحث بين ركام العناصر عن شيء جوهري مفقود. في تلك المرحلة كان مهر الدين، الغاضب المتمرد، يطرح سلبيات الواقع المؤلم ليتأمله ببصيرة وصبر، مع ذلك نجد أعماله النابعة من وعي ذهني حاد تلامس بشعريتها الخفية وجدان المشاهد وتقحمه إلى حد استفزازه. هكذا يستقطب الفنان المشاهد ويزجه في العمل كما لو كان الخطاب موجها لشخصه. إنه ليجعل "العين تصغي"، على حد تعبير الشاعر بول كلوديل.

عمل محمد مهر الدين مدرسًا في معهد الفنون الجميلة ببغداد لسنوات طويلة، وقد تأثر به تلامذته تأثرًا كبيرًا، واستطاعوا أن يبلوروا تجاربهم المتميزة ولاسيما الموهوبين منهم. وبعد عام 1991، اتسمت أعماله المرسومة على الورق بالغزارة، ربما تحت ضغط ظروف الحصار القاهرة، وأنتج أعدادًا كبيرة منها مازجًا بين التلصيق (الكولاج) واستخدام المواد المختلفة كالأقلام الملونة والأحبار والأكرليك. وتتميز هذه الأعمال بكونها خلاصة تجربة الفنان الطويلة في التكوين الإنشائي والتلوين، وهي تنزع من جديد نحو التجريد مع بعض الإشارات والحروف، وأجزاء من شكل الإنسان أحيانا. وبعد انقطاع طويل عن ممارسة فن الحفر والطباعة (غرافيك) عاد مهر الدين إلى ممارسة هذا الفن، وأنتج مجموعة أعمال بالحفر على الزنك (etching) وتقنيات أخرى.

يعد مهر الدين من أبرز وأهم من روج لفن الملصق في العراق، والارتفاع به إلى مستوى الأداء الراقي. وإذا كان هذا الفن ذو الخطاب المباشر حاضرا ضمنا في أعماله عموما، فقد طغى طغيانا سافرا على الأعمال المنفذة بالأكريليك على القماش والورق والمطبوعة التي ضمها معرضه الشخصي الأخير في عمّان (الأورفلي، حزيران 2014). فهي أعمال أنتجت ولا شك تحت ضغط الغضب والمرارة من الأوضاع المتردية التي يمر بها العراق وما حول العراق. ما افتقدتُه في هذا المعرض تحديدا الكثير من صير الفنان ودقته، فضلا عن افتقار هذه الأعمال تحديدا إلى تلك الحساسية الشعرية الخارقة التي طالما ميّزت أعماله السابقة، والمغزى الدفين المستفز الذي تستبطنه عادة مفردات أعماله المنتقاة برموزها وألوانها.

 

       عمّان، حزيران 2014

 

كاتبة وناقدة من العراق / عمان

الأعمال المرفقة للفنان الراحل محمد مهر الدين

 

 

 

 

started 1 MAY 2010                 email : info@ila-magazine.com

design: gitta pardoel logo: modhir ahmed   © ila-magazine