البويطيقا الكلاسيكية في سرديات الحداثة

 وين جين أويان

ترجمة  : د.صالح الرزوق

 

يدخل خطاب نزار قباني فيما يراه ريشارد تيردمان ذاكرة لأزمة ترسبت بواسطة وضمن الحداثة، وهي ذات علاقة بإحساسين أساسيين لهما علاقة بالتقاليد والتبدل:

أحدهما من أهم الأحاسيس ويتعلق بالقطيعة القوية مع أشكال التقليد في الذاكرة. وثانيهما من ضمن مناخ هذه القطيعة، إن الذاكرة النشطة تصب فعلها على الذاكرة نفسها، وعلى مؤسسة الذاكرة وبالتالي التاريخ، وقد أصبحت هما حرجا يشغل الجهود الرامية للتفكير وما يمكن للأنتلجنسيا أن تدعوه باسم "حديث".

يعمل قباني في كتاباته وأشعاره وفي لقاءاته الخاصة بالشعر على تعويم هذه الحساسية المتعلقة بأزمة الذاكرة والتي ولدتها قضايا الحداثة. إنه لا يمكن ببساطة التأكيد على أن الماضي يهددنا بالفيضان من فوق ضفاف الذاكرة، ثم يضيع وننساه، ولكن أيضا، ومن وجهة نظر بعد كولونيالية، ينفصل بلا تردد عن حاضر العرب بقوة التغريب. وحتى وهو يرفض الماضي، يقع في إغواء " نوستالجيا تدفعه لتدويرغير إشكالي أو لإضفاء طابع تكاملي على الحاضر والماضي". وانشغاله بالماضي يستجيب لإحساسنا أن الزمن غير مترابط، والماضي غير متاح ولا يقبل الحاضر. وطريقة ربط لغته بالماضي، وبتقاليد الاستعمالات الأدبية والثقافية، هي طريقته للاحتفاظ بالتماسك في عملية تطوير الشعر العربي، والأدب العربي، والثقافة العربية. وهذا جزء من المراجعة المستمرة والإنتاج المتواصل للثقافة في الذاكرة الفردية والاجتماعية. وكلام تيرديمان هو استجابة لأزمة ذاكرة الحداثة في فرنسا. وإن هذه الأزمة، في السياق العربي، تفتح بشكل غريب الذاكرة العربية من أجل إعادة ترسيم حدودها ونقاط العلام فيها. وقد استفادت النخبة العربية من القطيعة مع أشكال الذاكرة التقليدية، وأعادت تفصيل التقاليد بطريقة لا تشرعن الحديث فقط ولكن أيضا تقدم لها جذورها التاريخية أيضا. وكان الشعر العربي الحديث في مركز هذه السيرورة التي تميزت بالصدام مع الذاكرة.

منذ بداية الحقبة الحديثة من التاريخ الثقافي العربي/ كان الشعر قضية مركزية تدور النقاشات حولها ولا سيما فيما يتعلق بإشكالية خطاب الحداثة والتحديث. وحملة نابليون على مصر (1798-1805)، كما تبين التطورات السياسية والاقتصادية والأدبية والثقافية وتاريخ النخبة في العالم العربي، كانت صدمة محفزة بدأت منها عملية النقد الذاتي وتبعها مشروعات للتحويل الثقافي تحت رايات التحديث.

و اللقاء الثقافي غير المتوقع  مع "القوى الغربية العظمى" صدمت العرب وأخرجتهم من سباتهم، ومن أفكارهم الجامدة بخصوص التفوق والتمايز. هذه التجربة "الرضية" في الثقافة كانت على نحو معقد حافزا لتحديث آخر، لفتوحات متجددة في الثقافة، وعلاوة على ذلك، فرصة للإحياء الثقافي، وتجديد الشباب، وربما أيضا التثوير. والشعر العربي، وهو هوية مشتركة بين كل العرب، وذلك على امتداد أربعة عشر قرنا خلت، منذ ظهور الإسلام، كان هدفا للنقاش بغرض الالتحاق بركب التجديد الثقافي واتجاهاته.

يقول أدونيس عن العرب، وهو شاعر عربي طليعي، وناقد أدبي ومهندس للهوية الثقافية المعاصرة، إن تجربتهم مع الحداثة على الشكل التالي: بدأ تراجع المجتمع العربي عن الطرق التي فتحتها الحداثة العربية مع سقوط بغدادسنة 1258 ، وتم الانقطاع عنها في الحروب الصليبية ، وبلغ أوجه مع السيطرة العثمانية.  وبين القرن التاسع عشر وأواسط الآربعينيات من القرن العشرين وهي مرحلة الاستعمار الغربي، ومرحلة الاتصال بثقافته وحداثته، ومرحلة ما سمي بـ "عصر النهضة" (وهي تسمية تستحق بذاتها دراسة على حدة) – استعيدت مسألة الحداثة، واستؤنفت مناقشة الإشكالات والقضايا التي تثيرها.

و المصطلح الذي استعمله أدونيس للتعبير عن جزر ومد موقف العرب من التحول الثقافي، سواء كان الكلام عن الشعر والأدب والموسيقا وأسلوب الحياة والأفكار، ثم تسويق كل ذلك على أنه "موضوع يقبل النقاش" في ظل تطور الحداثة، و" الأساليب التي شقتها" الحداثة ذاتها، كان على ما يبدو يتحرك بين القطبين المطروحين هنا للنقاش. هذان القطبان المختلفان وضعت أسسهما الذات الثقافية والآخر، وهذا بدوره خلف المزيد من الصراعات الثنائية، مثل صراع الداخل والخارج، التقليد والحديث، الديني والعلماني، القديم والجديد، المحكي والمكتوب، الواحدي والمتعدد. وكل هذه التعقيدات محبوكة في شبكة يمكن لنا أن ندعوها باسم ثقافة. والأهم، إن الحداثة بالعادة تقدم نفسها على أنها تأثير وتأثر، في زمان وفي مكان قوة نفوذ السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي، وفي هذه الحالة، نفوذ المؤثرات العربية.

و برأي أدونيس لعبت " القوى الأجنبية" دورا محددا في اتجاه حركة التحولات الثقافية المتمركزة حول فكرة الحداثة. فتجميد الثقافة العربية في " التوجه التقليدي" خلال الفترات الثلاثة المذكورة سابقا (الغزو المغولي والصليبي والعثماني)، أو من جهة أخرى ، توليد التغيير والابتكار والتحول في فترتين تاريخيتين، الأولى يحددها أدونيس بالقرن الثامن والتاسع والعاشر، والثانية بالقرنين التاسع عشر والعشرين. إنه يؤكد:

إن مسألة الحداثة الشعرية..  تشير إلى أزمة ثقافية.. ترتبط بصراع داخلي، متعدد الوجوه والمستويات. وترتبط كذلك بصراع المجتمع العربي مع القوى الخارجية ونلاحظ في هذا الصدد أن العودة إلى القديم كانت تشتد طردا مع تزايد الصراع الداخلي أو شدة الخطر الخارجي.

و"الصراع الداخلي على السلطة" المذكور أعلاه، وحسب وجهة نظر مشروع التحديث عند أدونيس، له علاقة بالقناعة الموروثة عند العرب، أو أنه متداخل بقوة مع الدين. فالإسلام هو الذي أرسى أساس الدولة المعروفة باسم الخلافة، فهي دولة أمة واحدة ومعنى ذلك أن الإجماع مطلب جوهري. فالفكر والسياسة دينيان: والدين واحد وموحد.

ومن هنا كانت الحداثة برأي السلطة الدينية والسياسية، بالضرورة معصية  وتقوم على التثوير وهي هرطقة وإلحاد.

" كانت السلطة تسمي جميع الذين لا يفكرون وفقا لثقافة الخلافة بأهل الإحداث،  وتضعهم مع الهراطقة الخارجين على تعاليم الإسلام"(28). والفلاسفة الذين أنكروا دور الوحي في المعرفة وقالوا إنها من شأن العقل، على سبيل المثال، تعرضوا للتهميش. والمتصوفة الذين رفضوا القراءة الحرفية (المسطحة) للنصوص المؤسسة للإسلام (ومن ضمن ذلك القرآن) وأكدوا أن الحقيقة والمعرفة موجودة في الباطن، وقالوا بإمكان حصول نوع من الوحدة أو الاتحاد بين الله والكون، وبين الله والإنسان  أو واحدية بين الإلهي والوجود، أو بين الله والإنسان، تعرضوا للمضايقة إن ليس للإدانة.

ويراهن أدونيس أن :"تطور الحداثة العربية في القرن الثامن، اقترن بالحركات الفكرية التي تعيد النظر بشكل أو آخر في المفهومات الثقافية الموروثة والدينية  على الأخص".

وكانت هذه الحركات تستجيب على حد سواء : للصراع الخارجي مع القوى الأجنبية" و" محكومة بالحركات الثورية التي تطالب سياسيا واجتماعيا بالمساواة والعدالة وعدم التفريق بين المسلم والمسلم على أساس من جنس ولون.  وذلك كلما توسعت مساحة الإمبراطورية الإسلامية وضمت المزيد من الشعوب والثقافات من إمبراطوريات سبقتها كالبيزنطية والفارسية.

لقد قامت الحداثة العربية في القرن التاسع عشر، كجزء وإطار من مشروع أساسي هدفه تفكيك الاستعمار، على مجموعة من الموضوعات الثقافية المتداخلة، وهي  ما يشار إليها باسم " صدمة التحديث" التي اشتعلت بعد التدخل الاستعماري الغربي. ولقد طالبت أيضا بالمساواة، بالمعنى العرقي والثقافي، ليس بين الجماعات الإثنية المختلفة المنتشرة في العالم العربي ولكن أيضا بين الشرق والغرب، على أساس الإنجازات الثقافية والحق الأساسي، وراهنت على التحول الثقافي والتقدم والحداثة، من أجل الاندماج في العالم الحديث.

هنا مجددا يقع صدام مع الآخر الثقافي، المختلف، والذي يضرم الرغبة بالتغيير ويمهد لسلسلة من الحركات التي تحاول قطع شريحة من "العقل العربي" تتمسك "بأسلوب المعرفة التقليدي، والتي دائما تجدها متشكلة في ومن خلال اللغة العربية. وتعطي الشكل والسلطة لطريقة الحياة والتفكير والكلام المعروفة والراسخة: أي الأصول. وقد انقسمت الآراء حول الحداثة إلى تيارين رئيسيين، كما يقول أدونيس، الاتجاه التقليدي/ الثابت (الأصولي)، والذي ينظر إلى الدين وعلوم اللسان العربي على أنه قاعدته الأساسية،  والاتجاه التقدمي/ المتحول (التجاوزي)، والذي يعتقد أن قاعدته، بعكس الاتجاه السابق، موجودة في العلمانية الأوروبية".

ولدى تأمل: فلسفة الاتجاه الأول تجد أن " القديم – ليكن في الدين أو الشعر أو اللغة- هو مثال الحقيقة والمعرفة اليقينية. وهذا يعني أن المستقبل متضمن فيه: أي لا يجوز لمن يصدر عن هذه الثقافة أن يتصور إمكان نشوء حقائق أو معارف تتخطى ذلك القديم. ويعني هذا بالتالي أن الحداثة كما أسس لها أبو نواس وأبو تمام وابن الراوندي (توفي 910) والرازي (توفي 1210) وجابر بن حيان (توفي 815)، والتصوف، تجربة ورؤيا، تفترض نشوء حقائق عن الإنسان والعالم، ليست نقدا للقديم الأصلي، وحسسب، وإنما هي خروج عليه.

كان دوره الإيديولوجي الأساسي، المدفون في إبستمولوجيا أساساتها اللغة العربية، يفسر كيف أن المصطلحات ( إحداث = ابتكار) و(محدث وحديث = جديد، طازج) و(حداثة = موديرن أو موديرنيزم) تستعمل لتعيين هوية الشعر الذي تمرد على المبادئ الشعرية القديمة، وهي مصطلحات انتقلت من المعجم الديني إلى المعجم الأدبي. ويبدو الحديث في الشعر بنظر المؤسسة الحاكمة في القرن الثامن والتاسع والعاشر وكأنه هجوم سياسي وعقلي على ثقافة النظام ورفض للمعايير المثالية التي يحرسها العقل القديم. بالنسبة للثقافة التقليدية المتضمنة في الممارسة المستمرة للإبستمولوجيا التي ترى الحقيقة في النص، وليس في الممارسة والواقع، كانت الحقيقة هي معطى محدود ومؤكد ولا يوجد معها شيء آخر. ودور الأفكار يتركز في التفسير والتعليم، ويتطور من قناعة محددة ثم يصل إلى حقائق مختلفة وجديدة. وتقبل أي شيء جديد يفتح الرؤية الدينية الإسلامية وآلياتها الثقافية والعقلية على مساحة مخصصة للشك، ويقاطع واقعية الماضي المستمر.

إن الحداثة في سرديات أدونيس ليست الحالة المفضلة للواقع المتحول، ولكنها أيضا فكرة سردية، ومصدر ألفاظ صوتية تتبدل به الثقافة، ويتحول رأي العالم  ونمط الحياة، ولكنه يتعرض للمساءلة والنقاش ويتم تحريضه لتحديد ارتباطاته ومشروعيته وربما يضفى عليه طابع كوني شمولي. والحداثة مثل ظاهرة الحداثة تستجيب لظروف التحديث وعواقب هذه التطورات. وعلاوة على ذلك، هي ذات بنائية متخيلة لها استراتيجية متماسكة تتضمن وتستبعد كل الصفات المعروفة التي تتصف بها السرديات (الكبرى) في الحضارة وفي الإمبراطورية.

 

 • أستاذة الحضارة الإسلامية في جامعة لندن. والترجمة لصالح الرزوق بإذن من الكاتبة.

كاتب وناقد من سوريا

 

started 1 MAY 2010                 email : info@ila-magazine.com

design: gitta pardoel logo: modhir ahmed   © ila-magazine