مديح الرسم الصافي في "صالة مازوليني" بلندن
فاروق يوسف
تستقبل "صالة مازوليني" بلندن أعمالا لخمسة فنانين لعبوا دورا خطيرا في التحول الفني الذي شهدته ستينات القرن الماضي: الفرنسي ايف كلاين والايطاليون بييرو مانزوني ولوتشيو فونتانا وانريكو كاستيلانيو والأميركي جوزف كوست.
قد يبدو كوست غريبا بين الأربعة، هو الذي عُرف بريادته لفن المفاهيم من خلال عمله الشهير "ثلاثة كراس" في العام 1964، لكنه بالنسبة لقيم المعرض يشكل العمود الفقري للمعرض الذي حمل عنوان "الألوان في سياق اللعب". فلو لم يكن كوست موجودا بأعماله المفاهيمية وهي عبارة عن كتابات، لما أقيم المعرض بالطريقة المدهشة التي عرضت من خلالها الرسوم. غير أن ذريعة إقامة المعرض لا تضفي شيئا على الأهمية الاستثنائية التي تنطوي عليها الأعمال المعروضة. لقد جر الرسامون الأربعة الرسم في عصرنا إلى مناطق خلوية سيكون من الصعب عليه تخطيها. فمن خلال تلك المناطق انكشف الرسم على وجوده الخالص، بعيدا من موضوعاته ومضامينه وأشكاله المتوارثة. لقد وصل الأربعة بالرسم إلى حافاته الباردة التي تلهم قدرا عظيما من الصمت المتأمل.
معهم لم يعد الرسم كما عرفناه. لقد اختفى الخط ومعه اختفت ملامح العالم وصار من الصعب التفكير في وصف العالم ضمن حدود معلومة. لقد اختفى الشكل الذي يشير إلى وجودنا، شهودا وموضوعات. كان علينا أن نكتفي بالرسم لذاته. ما تحته، يلهم ما فوقه. وهي معادلة معكوسة تكشف عن عمق اليأس الذي وصل إليه الرسامون من الرسم باعتباره منافسا للطبيعة.
شق فونتانا (1899 - 1968) سطح اللوحة واكتفى بحيرتنا التي تفصح عن خوفنا من أن لا نجد شيئا إن نظرنا من خلال ذلك الشق. أما ايف كلاين (1928 - 1962) فقد ألهم أزرقه الساحر بصفائه الكثيرين. لم يرسم كلاين شيئا محددا غير أن لوحته تظل ممتلئة بأشياء لم نعهدها من قبل. سيكون علينا أن نحتاط من أجل لقاءات سارة غير متوقعة.
اما بييرو مانزوني فقد كان شريكا لكلاين من حيث مربعاته البيضاء المتلاصقة التي تنطوي سطوحها على الكثير من الأسرار. نتوءات انريكو كاستيلانيو (1930) هي تجسيد لما يمكن أن ينطوي عليه الداخل من نبوءات. أقام الرسامون الأربعة عوالمهم تحت السطح، وهذا تحول لا يزال يتفاعل حتى يومنا الحالي.
معهم ولدت تجريدية جديدة. هذا صحيح. لكن الصحيح أيضا أن مفهوما جديدا للرسم صار قيد التداول بسبب جرأتهم التي أغلقت الباب وللمرة الأولى أمام الطبيعة. هناك مقياس جديد للجمال لا يمت بصلة إلى النظم الجمالية التي تقرها الطبيعة. ربما كان منسق المعرض على حق في العودة إلى معرض الأميركي جوزف كوست (1945) الذي أقامه في العام 1968 بعنوان "الفن كفكرة". فمن الخارج يبدو الرسامون الأربعة كما لو أنهم دعاة لمفهوم الرسم كفكرة. غير أن تلك المقولة لا تعبّر تماما عن حقيقة التحول الذي أحدثوه في تاريخ الرسم الحديث. لقد وزع المنسق الأعمال على أساس ألوانها. الأبيض فالأسود فالأحمر ثم البنفسجي والرمادي. وهو تصنيف ساذج لا يليق بتجارب فنانين كبار غيّروا مسار الرسم. لكن الأمور في عمليات الترويج للفن وتسويقه وعرضه غي عصرنا، صارت تجري بطريقة غير مفهومة بسبب لاعقلانيتها وركاكة التفكير في الفن وسطحيته.
لا تحتاج العودة إلى تجارب ايف كلاين وفونتانا ومانزوني وكاستيلانيو إلى ذريعة. أثرهم لا يزال ماثلا أمامنا. ما من أحد ترك أثرا في الرسم عبر الخمسين سنة الماضية مثلما فعلوا. لقد وهبوا الرسم حيوية عادت به إلى مختبره البصري والتقني الغامض فناً خالصا. فإذا كنتَ لا ترى شيئا محددا على سطوح لوحاتهم فإن ذلك لا يمنع من أن تقع أسير جاذبيتها وسحرها وعمق ما ترمي إليه من إعادة نظر في ما نراه من حولنا من أشياء.
شاعر وناقد من العراق / برطانيا
العمل المرفق للفنان الايطالي بيرو مانزوني
started 1 MAY 2010 email : info@ila-magazine.com
design: gitta pardoel logo: modhir ahmed © ila-magazine