علي رشيد : جدران مسكونة بالاسئلة
موسى الخميسي
هل تطرح اعمال هذا الفنان مدخلا تشكيليا جديدا ؟ ربما. فأشكاله وما تحمله من عناصر لونية متداخلة ومن تفكيك وهدم وتشظي يمكن رؤيتها من مسافة قريبة وكانها تركيبات درامية لكائنات شعرية مستوحدة تحاصرنا باسئلتها الكبرى، فهي تنزع الى ما سيهدم بعده. لكنها، مع الاقتراب التدريجي، تبدو وكأنها توقعنا في فخ بصري من نوع مغاير. فحركة الضوء في اعماله تفتح حقولا لونية واشعاعات وصورا وافرادا وكانها مشاهد لتأليفات مترابطة عضويا تشكل وحدة مرئية منسجمة فيما بينها دون الاخلال بباقي العناصر المحيطة بها، سواء أكانت من مشتقات هذا اللون او من تلاشيه وذوبانه وانصهاره عبر انتقاله من حالة لاخرى. ان اسلوبه التجريدي الذي يرتفع فيه عن التمثيل الواقعي، والتعبيرية التي تحط بنفسها من خلال صور الوجوه وحركة الاجساد الملصوقة على جدار اللوحة، التي كثيرا ما يلجأ اليها لافراغ احاسيسه وانفعالاته، يجعلان المشهد التصويري عنده في احيان كثيرة اقرب الى الطبيعة الخارجة من ذاكرة مختلطة بالاضافة الى تاكيده على سمات القلق الذي يرتسم على خطوط حائرة تأخذنا الى اتجاهات شعرية محاطة بالافصاح مرة وبالغموض مرة اخرى، يستعين على تجسيدها بتلك " الخربشة" الخطية بعبثيتها لتشويش الواقع ولتصدم شكلا يبدو وكأنه جدار يعبر عن مشهد من الحياة يتحرك على سطحه جمع من البشر. انها لوحات تفيض احيانا على الجدار نفسه لتتحول الى جدار و لتتماهى مع الجدار نفسه. فاللوحة التي نقف امامها للبحث عن الرموز والالغاز والاشارات تضعنا امام محاولات لتأمل ولتأويل الاشكال او التلميح اليها، فهو يذهب في تخيلاته الى ما لايستطيع المشاهد اللحاق به وكأنه يضيف الى سطح الجدار اعماقا، والى مساحة اللوحة باطنا والى جسده روحا.
يمكننا ملاحظة استخداماته للون رمادي طفولي متمرد وعاصف خارج من اعماق ذاته الى العراء، يستجلي من خلاله رغبة ملحة الى رؤية ما يركن تحت الغموض. انه كالطفل المتمرد العابث الذي لا يرى في الرسم إلا ما يخبئه خياله العابث من مفاجأت سلوكية ومن سحر الرسم بذاته. انه يفكك المشهد الذي يقيم فيه بشكل مستبد ولا يراه مكتملا إلا بزيادة المكائد التي يطلقها عنان خياله وبراءته العفوية، فهو يقول : " احاول كسر مفهوم الكتلة والكثافة اللونية في العمل باللجوء الى الخط الذي يوجز التواصل مع الاخر، وكذلك استخدام المادة المتاحة: الورقة، القلم، الكارتون، بقايا الورق، صور فوتوغرافية، وهكذا ... لأعلن ان الفن ماعاد فن الحامل ورقعة الالوان وصناعة اللوحة بقوانين تقيد حرية المخيلة" ، ويضيف : " ان الفن مفردة حياتية يومية لايمكن صناعتها، بل عيشها" . انه لا يهتم بالمعجزات الخارجة عن روحه، وهو يقبل بما يمليه حدسه لأن الرسم يبدأ على الدوام ببناءات انشائية لوقائع يفترضها هو، تمتلك حيزها البصري الذي يحتضن كل رؤاه لتمنحه سعادة تخيلية، وهي معجزاته السحرية الملونة الصغيرة التي تحمل اختزالاته التجريدية كونها عوالم صوفية مكتفية بذاتها تعيد صلته بحكايات مسكون بها يمارس معها اللعب غير المرئي من خلال تقنيات لا يتعب نفسه بالتنقيب عنها، فهو يقدم اللون انطلاقا من مرجعيته كفنان وليس كناقد. اللون يتلاشى، يتدرج ويذوب في فضاء اللوحة لانه يسبح فيه، واللون في الوقت نفسه يصبح حالة انتقالية. انه بهذه الخطوط اللونية المتماهية، بتعاريجها وتجاعيدها التي يقطعها من دون رحمة، يجرب مزاوجته ومناظرته ومقابلته باسلوب متحرر من الهندسيه التقليدية. انهه يستخدم حركة الخط العنيف لتحقيق نوع من زخرفة بصرية لاشكلية، ينظمها بايقاعاتها وانفعالاتها خارج حدود المربعات والدوائر، تعتمد العري كحالة انسانية تجعل التجريد المنفلت طريا ونديا وبعيدا عن القسوة وجفاف الشكل.
انها تعبيرية مغايرة، فتلك الخطوط الملونة الغير مسالمة، وتلك الاشكال التي يختارها من صور فوتوغرافية لوجوه واجساد، تتناسل بخفة وتوتر متدفق، تفيض ألماً وتنطق استفهاما متشنجا يجعل الشكل الانساني الممزق والممسوخ شبيها بخرائط جغرافية فاقدة للتوازن، لايجمعها سوى رغبة الخروج من حالة الثبات الى الفضاء حاملة مآسيها المستترة والمشبعة بالاوجاع والخيبات، يقولب فيها الحالات الداخلية ليجعل هذه التعبيرية تنضوي تحت شعاراتها المناخية الذاتية بحركتها المصطفة مع الحياة والحرية، وهو رد فعل تحريضي يتحرك بالرغبة في تعرية اللوحة حتى الوصول الى لون خالص منفلت يعتمد حالتي الهدم والخلق كتعبيرعن الانفتاح الذي ينشده الفنان بعيدا عن اي لون صامت حيادي مفتوح على كل الاحتمالات، وهذا يذكرنا بقول الكاتب البرتغالي فرناندو بِسّوا :" مَن ينقذني من الوجود؟ ليس الموت هو ما ابتغيه، ولا هي الحياة، بل اريد ما يلمع داخل رغبتي القلقة كحجر الماس، وهمي في ظلمات كهف لايمكن الوصول اليه".
اعمال علي رشيد التي تبدو للوهلة الاولى وكانها خطوط بدائية عصابية كابوسية لحشود ممسوخة من البشر، تبحث عن اسطورة سحرية مغمسة باقسى درجات الاغتراب التي يعيشها الانسان. هي نوع من تجريدات غنائية مليئة بذاكرة سحرية مثيرة للفضول، تحرض على اسئلة تتجاوز نطاق القراءة الاولى، تحمل تأويلات متعددة الوجوه تدل على تجربة خصبة لفنان تشكيلي يواصل بحثه الدؤوب عن لغة متجددة وعن خرق القواعد لينتهج خطا مغايرا يبدأ من لحظة إلهام بصري يزج فيها جميع حواسه ليتحسس الطريق الى ما تقترحه مخيلته في هذا الرهان الجمالي القابل للتشكل في كل لحظة، وارتحالاته المهنية تبوح بأنه انسان منفتح على العالم والافكار الجديدة ، وغير متعصب لمدرسة او تيار . مقومات العمل الفني عند علي رشيد عميقة ومتماسكة بقوة، تفصح عن نقاء النوع الفني، فهو ينسلّ بخفة من قالب الفنان التقليدي ليكون واحد من الجسور الفنية الذي يقود بعمله الفني الى مناطق فنية لايزال نزاع المفاهيم فيها مستعرا.
الأعمال المرفقة للفنان علي رشيد
فنان وناقد من العراق / إيطاليا
started 1 MAY 2010 email : info@ila-magazine.com
design: gitta pardoel logo: modhir ahmed © ila-magazine