طوب...البعد التدويني للخامة وهوية المعمار
علي رشيد
بين الواقع والمتخيل تقودنا أعمال الفنانة البحرينية هدير البقالي في معرضها الأخير والذي حمل اسم " طوب " إلى التنقيب في ماهية الحياة ، وتفاصيلها عبر البحث الآركيولوجي في ملامح المدن وهندستها . بحث يفرز التناص بين الكائن ومحيطه ، حيث تتشكل تفاصيله عبر أداء بصري ينحاز إلى المنظور العام الذي يشكل قياس الواقع ، وتعبيرية اللوحة صعودا إلى تفعيل النسق المعرفي للمادة و بعدها الدلالي ، وهذا هو الهدف الذي منحته الفنانة ثقل اشتغالاتها لتختار المفردة " طوب " التي ستفتح طلسم الفكرة ، ويقينها . ها هي تعيد ترميم ذائقتنا التي لم تعد تهتم عبر جريها إلا بما هو شاخص ، ومشكل ، ومتكامل لنغرف من الأشكال حتميتها و وظيفتها ، بدلا من الغوص " بصريا " في فصاحة التفاصيل ، والركائز ، والعناصر التي ستقودنا إلى التأويل كهدف لكل مسعى معرفي .
تستبدل الفنانة النظرة إلى المدن ، لتعيد تأثيث الوصف . فهي لا تحتكم إلى العدسة التي تصور المشهد ، بل إلى الإزميل الذي يفهرس العناصر التي ستجعلنا نتعقب الإحالات التي يفرزها الكيان المعماري للمدن ، و ملامحها التي تتمايز من بناية إلى أخرى ، بل ومن مدينة إلى سواها . حيث تنفتح المرئيات على هوياتها التي لا يمكن إلا وضعها في سياقها الجغرافي ، والثقافي .
وكما ترى الفنانة " أن نسق المادة الخرسانية التي تستخدم في هندسة المباني الشاهقة- ناطحة السحاب- المنحنية- التي تمايز عن نظيراتها، بأشكالها، وتماثلها وانسيابيتها، باتت مرتهنة بهوية الأرض وثقافتها، ومقتضية بمحاكاة خارج التقليد، وتعاصر بتصاميمها المعمارية الحديثة المكان الذي يصنع منه الإنسان انتماءه وماهية ذاته ومنظومته .
بهذا المعنى تقودنا الفنانة عبر أعمالها إلى استنباط الفعل الثقافي ، والتاريخي ، بل والإرث الإنساني للشعوب في تَشَكل الهوية المعمارية فنيا .
هذا الجانب الفكري للخامة التي ساهمت في بناء المدن الحديثة بتناص مع الطبيعة الثقافية ، والحضارية للمجتمعات جاءت أعمال الفنانة هدير لتشير إلى المحتوى المعرفي ، والبصري في صياغة اللوحة التي تتفاعل مع المحيط بكل علائقه ، وتشكّله . فجاء بناء العمل كما لو أنه مقطع تم التقاطه من الأعلى لاقتناص خرائط للمدن وهي تشفّر الواقع بصريا . حيث تتراكم الأشكال ، و تتشكّل المساحات عبر تناغمات لونية غير حادة ، وبتجريدية هندسية ساهمت التضاريس ، والنتؤات التي أفرزتها تقنية التلصيق ، واستخدامات لمواد مختلفة في تحرير البعد التصويري للمدينة ورمزيتها .
يتكثّف الزمن داخل اللوحة ، يبدو كما لو أن المرموزات فعل آني ّ . هو ليس زمن تتابعي تتصفحه بل لحظة تؤرخ لشساعة المشهد الذي يختصر التفاعلات الحياتية والإنسانية التي تلقي بظلالها على الأشكال . قد تبدو الخطوط ، والبناءات متشابهة ، لكن التلاعب باللون ودرجاته جعل كل بناء ينحاز إلى ذائقة مغايرة ، بل إلى هويات مختلفة داخل العمل .
تبدو العمارة العربية حاضرة من خلال البعد الروحي للون الأبيض في مشهد لا يخلو من الأقواس ، والدوائر التي تمتاز بها العمارة العربية ، بل عُمدت الأعمال بالكتابة ومرموزاتها التي تشير إلى البعد التدويني للتفاصيل ، ومرجعيتها .
هدير البقالي فنانة تفتح باب التدوين لعالم معاصر تتزاحم فيه الرؤى ، والاختلافات . ولا تتوانى من أن تشير إلى ما لا يرى .
اسبانيا / 2016 . كتبت المادة كمقدمة للمعرض الشخصي الأول للفنانة
محرر إلــــــــــــــى
started 1 MAY 2010 email : info@ila-magazine.com
design: gitta pardoel logo: modhir ahmed © ila-magazine