ILA MAGAZINE
الواسطي وبيارق العيد في رسوم المقامة البرقعيدية
محمد مهدي حميدة
سطع كل من الخيال الفني والرؤية الذاتية في الكثير من الرسوم التي أبدعها (الواسطي) لمقامات الحريري بحيث تجاوز عدد غير قليل من هذه الرسوم النص الأدبي ذاته خاصة فيما يتعلق بالمنحى البلاغي، و قد جاءت الرسوم على هذا النحو أكثر إمتاعا من النص الأدبي الذي لا يقلل ذلك من شأنه قط فهو من لعب الدور الرئيسي بوصفه محرضا على إلهاب المخيلة التصويرية لدى الرسام العربي (يحيى الواسطي) الذي امتاز بالذكاء في بناء رسومه وبدقة اختياره للحظة الأبرز من بين أحداث المقامات المتنوعة ليطرحها بأسلوبه الخاص ومقترحه المغاير لما كان سائدا لدى أقرانه من رسامي المدرسة العربية التي تجاوز قواعدها في معظم أعماله.
وقد تخير (الواسطي) في رسوم المقامة (البرقعيدية) وهي المقامة السابعة من مقامات الحريري موكب احتفائي بليلة العيد لم يرد وصفه في النص الأدبي حيث جاء في مفتتح المقامة "حكى الحارث بن همام قال: أزمعت الشخوص من برقعيد. وقد شِمْتُ برْقَ عِيد. فكرهت الرحلة عن تلك المدينة. أو أشهد بها يوم الزينة. فلما أظل بفرضه ونفله. وأجلب بخيله ورجله. أتبعت السنة في لبس الجديد.. وبرزت مع من برز للتعبيد..."
وورد في (مسهل المقامات بإزالة الصعوبات) لابن سراج الدين في تبيين القسم الأول من هذا المفتتح من المقامة البرقعيدية أن الشخوص خرجت من برقعيد وهي بلد بينها وبين الموصل عشرون فرسخا وقد نظرت مقدمات عيد فكره الحارث بن همام - راوي المقامات- مغادرة تلك المدينة حتى يشهد بها يوم العيد وعن سبب تسمية يوم العيد عيدا يذكر بن سراج الدين أن الجنيد حين سأله رجل عن ذلك قال لأن أدم حين خرج من الجنة وأهبط إلى الأرض ثم تاب الله عليه ورده إلى الجنة كان في ذلك اليوم فقيل له يوم عيد لأنه أعيد إلى الجنة فيه، وقال ابن الأنباري معنى يوم العيد الذي يعود فيه الفرح أو الحزن وأصله العود فلما سكنت الواو وكسر ما قبلها قلبت ياءً من باب ميزان وميقات، كما يرد في إيضاحات (مسهل المقامات) أنه سمي بيوم الزينة لتزين الناس به.
والثابت أن المقامة البرقعيدية تأخذ بعد هذا المفتتح مسارها السردي في سبيل إظهار تعامي أبي زيد السروجي - البطل المحوري للمقامات- وهو يبيع الرقاع المكتوبة بين الجموع المحتشدة في يوم العيد دون أن يظهر السرد فيما تبقى من تلك المقامة أي شيء عن طبيعة وأجواء الاحتفالات بيوم العيد، وهذا ما اعتبره (الواسطي) فرصة سانحة لإضافة مشهد من المشاهد الاحتفالية ليأتي الرسم مكملا لنقائص السرد طبقا لمخيلة الرسام الذي لم يخنع لفكرة تقديم رسوم إيضاحية للمحتوى الأدبي فحسب وإنما نجده قد انطلق متحررا من تلك الفكرة تاركا لنفسه العنان لتقديم تصوراته وقناعاته هو نفسه المرتكزة على روح النص المكتوب وليس على الوصف المباشر الذي يحجم غالبا من خيال الفنان ويعيق قدراته على الإبداع.
اللافت في رسم (الواسطي) لمشهد الاحتفاء بليلة العيد هو اهتمامه بإبراز البيارق والأعلام الملونة إضافة إلى الآلات الإيقاعية وآلات النفخ الموسيقية التي يحملها مجموعة من المحتفيين بالعيد، وهنا ينبغي الإشارة إلى أن البيارق أو الأعلام والرايات كانت تستخدم لتمييز الشعوب والقبائل منذ القدم، و قد بدأ الإنسان في عصور التاريخ الأولى بغرس عصا طويلة معقوفة تحدد مكان تواجده للصيد حتى يمكن لعشيرته الاهتداء إليه ثم تطورت الفكرة لاحقا بإضافة ذيول الذئاب أو أذناب الخيول قبل أن يستخدم القادة في المعارك الحربية أعمدة مرتفعة (ألوية) تميز موقعهم من الجنود، ويقال إن الصينيين القدماء وسكان جزر الهند الشرقية هم أول من عرفوا أعلام القماش في حوالي 1100ق.م، ويذكر أنه قد أضيفت لتلك الأقمشة رموزا وشارات تميزها عن بعضها البعض بحسب وظيفتها وطبيعة استخدامها، وقد عرف الفراعنة وقاطنو بلاد مابين النهرين من الآشوريين والبابليين والسومريين الرايات والأعلام كما عرفها عرب الجاهلية وأيضا المسلمون فكانت الراية الإسلامية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم سوداء كبيرة تجاورها راية بيضاء صغيرة ثم تعددت الرايات من حيث اللون والشكل والمحتوى بعد انقسام الدولة الإسلامية بمقتل الخليفة (علي بن أبي طالب كرم الله وجهه).
يذكر أن الرايات الإسلامية قد زينت لاحقا بأشكال ورسوم هندسية كما أضيفت إليها كتابات دينية كالشهادتين وبعض آيات القرآن الكريم لتصبح كل راية من الرايات مميزة للفرقة أو اللواء الذي يتخذها لنفسه كدليل أو علامة.
وفي رسوم (الواسطي) لمقامات الحريري جاءت البيارق - الأعلام والرايات- في عدد من المنمنمات أشهرها منمنمة العيد التي نحن بصددها، ومنمنمة موكب الحج، وكذلك منمنمة أبو زيد يعظ الناس داخل مسجد.
ومن الناحية التشكيلية يلاحظ أن (الواسطي) رسم البيارق في أشكال وألوان متنوعة حيث ظهرت هذه البيارق بألوان عديدة كالأسود والأحمر والذهبي والبني والأزرق وهي نفسها الألوان التي نجد ترديدات واستخدامات لها في ملابس وعمائم الأشخاص المحتفين فوق خيولهم التي تكتسب أيضا بعضا من هذه الألوان، إضافة إلى وجود كتابات متنوعة بالخط الكوفي لكلمات ونصوص دينية منها (الله، محمد، لا إله إلا الله، قل هو الله أحد).
وفي سياق المكون البصري وتوزيع العناصر ليتناسب مع طبيعة الحدث المرسوم استوقفتني براعة الرسام في استخدام الخط المائل في تحديد مسار البيرق الكبير في نهاية المشهد ليقابله مسار مائل تتخذه آلات النفخ الموسيقية وهذان المساران يتقاطعان مع بعضهما البعض في نطاق الشخص الذي يتصدر اللوحة بزيه الأحمر والذي ميزه (الواسطي) أيضا بتخصيص أكبر البيارق لتكون في حوذته، كما أن هذين المسارين المائلين يتم ترديدهما تشكيليا في عدد من أقدام الخيول وبخاصة القدم الحمراء التي تتقدم الموكب من الناحية اليمني لتمنح الموكب إحساسا بالديناميكية والحراك المتوائمين مع طبيعة المشهد الاحتفالي.
كما يمكن القول بنجاح (الواسطي) في توظيف العناصر المستخدمة في بناء منمنمة ليلة العيد لتأكيد إحساس السعادة والابتهاج من خلال مسارات الخطوط داخل الرسم وخاصة الخطوط التي تشكل البيارق والأعلام وغيرها من أدوات الاحتفال، وبتعبير (د.زينب السجيني): "لما كانت طبيعة الخط هي نقل الحركة بشكل مباشر فإن الخط سواء كان مستقيما أو منحنيا، منفصلا أو ممتدا، فإنه يوجه مسار حركة العين داخل نطاق العمل الفني كما يسهم في تحديد انطباع ما لدى المشاهد فيستطيع الخط أن يجعل العين تتجه إلى أعلى فيعكس شعورا بالبهجة والعظمة، ومن أمثلة ذلك منمنمة (ليلة العيد) من مخطوط (مقامات الحريري) بتصوير (الواسطي) حيث تتجه خطوط البيارق والأعلام والآلات الموسيقية إلى أعلى".
وقد استوقفني في حقيقة الأمر تخير (الواسطي) لموقع الرسم الذي لم يأت مباشرة بعد افتتاح المقامة ولكنه جاء في منتصفها تقريبا وبعد أن سارت الأحداث بشكل قد يحدث في يوم من الأيام الاعتيادية التي تشهد ربما تجمعا للناس، ولعله بتخيره لمكان هذا الرسم في منتصف النص المخطوط تقريبا إنما يرد القارئ من خلال الرسم المقترح من لدنه لطبيعة الوقت الذي تدور فيه الأحداث ليتواصل بذلك مع بداية المقامة التي تقر بوقوع أحداثها في يوم العيد، وهنا يرسخ الرسم ما لم يقله الحريري حول أجواء واحتفالية العيد في مقامته البرقعيدية.
شاعر وناقد من مصر