(placeholder)

archive

ILA MAGAZINE

Website Building Application


بيير سولاج في سنته المائة

الرسم هو ما يبقيني في صحة جيدة


أجري هذا الحوار، مع الفنان التشكيلي الفرنسي الكبير بيير سولاج، في الرابع والعشرين من شهر دجنبر من سنة 2018، وهو تاريخ يصادف بلوغه سن التاسعة والتسعين، وبذلك، يكون هذا العبقري، الذي حول اللون الأسود إلى ضوء، كما أضاف إليه معان وتمثلان مبتكرة، آخر الفنانين الكبار، ليس فقط في فرنسا وإنما في العالم أيضا.

وبنشرنا لترجمة هذا الحوار، يكون سولاج، الذي ولد في مدينة رودز – Rodez سنة 1919، قد أقفل سنته المائة. عمر مديد قضى معظمه هذا الفنان، الذي ولد تجريديا ولا يزال يحفر مساره في أراضي التجريد العالمي، في فك شيفرات المادة وإنطاق أسرارها، إلى جانب استمراره في تطوير بحثه اليومي عن كيمياء اللون الأسود بما يجعله يفصح عن ممكناته الغميسة.

حين احتضن مركز جورج بومبيدو في باريس معرضا له في سنة 2009، اعتُبِر ثاني فنان، على قد الحياة - بعد الإسباني سالفادور دالي في سنة 1979 - الذي تعدى عتبة 500.000 زائر.

وبسبب هذه الحظوة الفنية الجبارة، أجمع نقاد الفن الفرنسيين على تصنيفه في خانة التراث الوطني، حيث ظل يمثل، لأزيد من نصف قرن من الزمن، الوجه المضيء لفرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي حذا بمعظم رؤساء فرنسا، منذ الماريشال دوغول إلى ماكرون، إلى السعي للتقرب منه وطلب وده.

هي فرصة يقترحها هذا الحوار، للاقتراب أكثر من هذا الفنان الكبير – سليل دفء الجنوب الفرنسي - الذي كرسه النقد الفني العالمي " سيدا للون الأسود " بلا منازع.


قابله: جان – ماري غافالدا

(صحفي بيومية ميدي ليبر)

تعريب: عزيز أزغاي

(شاعر وفنان تشكيلي)


  

كيف تفكر في الاحتفال بعيد ميلادك التاسع والتسعين؟

          لست أدري، الأكيد أنه لن يكون هناك أي شيء مختلف. فليست لدي عادات معينة في الاحتفال بأعياد ميلادي. أعتبر المناسبة يوما عاديا كباقي الأيام، بمعنى أنني أنصرف إلى عملي، أي إلى الرسم. أحس أنني بحاجة على التركيز وإلى التأمل، فلم يعد مسموحا لي بهدر الوقت. في النهاية، مطلوب منا أن نشمر على سواعدنا.

هل تنتظر أن تبلغ المائة سنة لإقامة حفل خاص بالمناسبة؟

          سأقفل مئويتي في الخامس والعشرين من شهر دجنبر القادم (دجنبر 2019). أما بخصوص الاحتفال بهذه المناسبة، سيكون فقط مع بعض الأصدقاء الحقيقيين، سننتظر إلى ذلك الحين.

          

ولدت قبيل رأس السنة (24 شتنبر)، هل تحرص على الذهاب إلى القداس السنوي؟

          منذ مدة طويلة توفقت عن ذلك. فأنا لست مؤمنا، على الرغم من أنني أسائل نفسي، أحيانا، عن سبب ذلك.

          

مؤخرا، تجاوزت إحدى لوحاته عتبة العشرة ملايين دولار في مزاد علني أقيم في نيويورك. هل أثر فيك هذا الأمر؟

          الأكيد أن هذا الأمر يهمني، إلا أنه لا يعتبر انشغالي الأول. فأنا ما زلت متشبثا بما كنت مقتنعا به دائما وهو أن العلاقة بين الفن والصباغة ليست دائما على ما يرام. صحيح أن أثمنة لوحاتي شهدت، في وقت قصير، ارتفاعا صاروخيا، إلا أن ذلك لا يثيرني.

          

الملاحظ أن هذه الأرقام المرتفعة قد حققتها لوحاتك القديمة. كيف تفسر هذا الأمر؟

          أمر طبيعي، لأنها أعمال نادرة، على الرغم من أن بإمكاني، الآن، إنجاز أعمال أخرى. وعلى العموم، فأنا لا أتوقف عن العمل، لأنني أعتبر الرسم هو الشيء الوحيد الذي يستحوذ على اهتمامي ويبقيني في حالة جيدة. في الحقيقة، هذا الأمر ليس صحيحا تماما، لأنني أصبحت أعاني من أزمة هشاشة العظام وهذا أمر مزعج حقا، على الرغم من أن ذلك لا يمنعني من الرسم. لحسن الحظ أن أغلب اللوحات - وهي من الحجم الكبير أحيانا - أرسمها على الأرض، أي في وضعية أفقية. فلم أعد أقدر على رفع ذراعي عاليا حين تكون اللوحة مثبتة عموديا.

أصبحت أعاني كذلك من صعوبة في النهوض من على الكرسي، وهو ما تطلب استعانتي الدائمة بكرسي مجهز بمِسْنَديْ للذراعين يساعداني على الوقوف. أتذكر، قبل أشهر من الآن، أنني أصبت بإحباط شديد. أما اليوم، فأنا في وضعية أفضل.

إذن أنت في حالة جيدة؟

          نعم، لا أشكو إلا من بعض الصعوبة في السمع، وينبغي أن أضع السماعة الطبية باستمرار.

          

هل تتجنب وضعها حفاظا على أناقتك؟

          أبدا، لقد أصبحت قطعة من جسدي. لكن فلتطمئن، إنني أسمعك جيدا.

أنت مبرمج، في سنة 2019، لعرض أعمالك في متحف اللوفر. هل يمكن اعتبار ذلك تكريسا لتجربتك؟

          هذا المعرض سيحتضنه الصالون المربع (*) الذي كان مخصصا، دائما، لفنانين كبار أمثال جيوتو- Giotto أوتشيلو- Uccello وغيرهما، وهو الصالون نفسه الذي كان يضم لوحة الفنان الإيطالي سيمابي - لا مايستا – la Maesta (**)، لذلك أتساءل: أين سيتم وضع هذا العمل الذي لم يسبق له، في حدود علمي، أن نقل خارج هذا المبنى؟ فقد جرت العادة أن تتم إعارة لوحات إلى بعض المتاحف العالمية الكبرى، مثل المتحف الوطني في واشنطن، ومتحف موما في نيويورك، ولاطاط في لندن. كل المتاحف الكبرى تعير أعمالا فنية كذلك. لقد علمت أن متحف سان بيتر سبورغ يرغب في أخذ إحدى لوحاتي الموجودة في متحف ليرميتاج، إلا أنني اعترضت على ذلك.

ما سبب اعتراضك؟

          لأنني أُعتبر - في الوقت الحاضر - الفنان الوحيد على قيد الحياة، الذي يحتضن هذا المتحف أحد أعماله، إلى جانب لوحات ل: كاندنسكي وماليفيتش وروتشينكو وماتيس وبيكاسو. ربما أمكنهم إعارة عملي بعد وفاتي (يضحك). إن متحف ليرميتاج يملك أفضل المجموعات الفنية في العالم.

هل هو المعرض الأول لك في اللوفر؟

          لا. فلدي لوحة معروضة من قبل. لكنها المرة الأولى التي يحتضن فيها معرضا كاملا لي، وليس في أية قاعة، وإنما في الصالون المربع، أي في القاعة التي سبقت وجود متحف اللوفر.

هل أنت سعيد بذلك؟

          بكل تأكيد. فأنا أفضل أن أعرض في اللوفر على أن أعرض في أي من القاعات الباريسية المشهورة.

يحتضن متحف روديز - Rodez في الوقت الحالي معرض " قشور الجوز " الذي يؤرخ لبداياتك الأولى. ما سبب اختيارك لهذه المادة في الرسم؟

          أولا لأنني أحب هذه المادة، ثم لأن ثمنها كان رخيصا جدا بالنظر إلى السياق الاقتصادي الصعب لمرحلة ما بعد الحرب العالمية. فالنجارون الذين كانوا يستعلمون هذه المادة كانوا يحضرونها بأنفسهم من قشور الجوز. لقد كان هذا السائل البني يعجبني كثيرا، لكونه كان يُمَكنني من العثور على تلك اللمسة التي تجمع بين الشفافية والغموض. إن الجوز يملك انسيابية مثيرة للاهتمام، وهي نفسها المميزات التي تتيحها الصباغة الزيتية، وهذا ما لاحظه أيضا الفنان راوول دوفي (1877 – 1953)، حين كنا قد نظمنا معرضا مشتركا بقاعة لويس كاري.

لكن دوفي كان فنانا تشخيصيا.

          صحيح. إلا أنه كان هو الآخر يتفنن في المزج بين الشفافية والغموض. فأنا، وإن كنت غير مهتم بالرسم التقليدي، إلا أنني كنت أفضل رسومات الكهوف التي تسللت إلي ببطء شديد، وقد استفدت منها في إنجاز أعمالي التي تعود إلى تلك المرحلة.

لذلك، اعتبرت المادة المستخلصة من قشرة الجوز اكتشافا ثوريا، حيث كانت لها نتائج مباشرة وفعالة، كما أنها حلت مشاكل كثيرة. كنت، آنذاك، أحلم برسومات مرحلة ما قبل التاريخ؛ البدائية وغير المقروءة، مثل رسومات مغارة بيش ميرل (Pech-Merle) التي تشهد على براعة معينة، مثل براعة الفنان دوفي، وليس الرسومات العظيمة المتأخرة عن تلك الحقبة. في الواقع، لقد مكنني مسحوق الجوز من الذهاب نحو ما كنت أريد.

يتم الحديث، دائما، عن قوة سولاج. هل تحس أنك شخص قوي؟

          الحقيقة أنني لا أسعى أن أكون جبارا أو قويا، أو أن يصبح طولي مترين. فحتى حينما اكتمل نموي توقف عند متر وتسعين سنتمترا. لكنني اليوم تقلصت. على أن الجانب الحاد في صباغتي يمكنه أن يكون مفاجئا بشكل عاطفي. فأنا لم أسع يوما إلى البحث تهذيب أسلوبي.

إضافة إلى مسحوق الجوز، تستعمل الحبر الصيني. هل الحبر هو من قادك إلى الأسود؟  

          أبدا، لأن الأسود كان لوني المفضل دائما. أتذكر باستمرار تلك الطرفة التي تحتفظ بها شقيقتي التي تكبرني بخمس عشرة سنة. فلقد تم استفساري، حين كنت طفلا، عن إحدى رسوماتي بالحبر الأسود، فكان جوابي أنها تمثل منظرا ثلجيا!!! الأمر الذي أضحك كل من كان حاضرا. في الحقيقة، لكي أظهر الأبيض كنت أستعمل الأسود.

كنت دائما أحب الأسود. إلى درجة أصبح لون ملابسي المفضل، منذ اللحظة التي صار بإمكاني اختيارها بنفسي. وهذا أمر لطالما أغضب والدتي. فقد كانت تقول لي دائما: " هل تريد أن تحزن، مسبقا، على موتي؟ ".

ربما، يرجع السبب في هذا الاختيار إلى كونك فقدت والدك وأنت في سن الخامسة؟

          ليست لي أية ذكرى عن والدي. كما أن لوني الأسود لا علاقة له برمزية الموت. لقد أحببت دائما هذا اللون.

هل يحدث أن يشدك الشوق إلى والدك؟

          لا أبدا، لأنني لا أملك أي فكرة عما تعنيه كلمة أب. لقد عشت بين أشخاص كبار لعبوا نفس الدور. فيما بعد، فقط، صرت أحس أنه كان أمرا مؤسفا كوني لم أعش مثل هذه المواجهة. لكن، لو كان قد بقي على قيد الحياة، لما تسنى لي القيام بما قمت به. ربما كان سيرغمني على فعل ما يعتبره كل الناس التقليديين أمرا صائبا، والحال أنني كنت حرا. ففي طفولتي، كنت أفعل ما أريد، وكانت أختي الكبرى، التي أصبحت مدرسة للفلسفة، معجبة بي.

إلى أي سن تعود ذكرياتك الأولى عن مدينة " رودز " التي ولدت فيها؟  

          ربما إلى سن الخامسة. بالكاد أتذكر والدي، أو بصراحة، لا أتذكره بل أتذكر فقط بعض عاداته، مثل الضغط على باب مفتوح بمرفقه. ما زلت أحتفظ بهذه الصورة، لكنني لا أتذكر كيف كانت هيأته. أما والدتي، فقد كان لها تأثير كبير علي.

ألم تنزعج والدتك وشقيقتك الكبرى من اختيارك لمهنة الفن؟

          أبدا، لم تتدخل والدتي في اختياري، رغم أنها كانت تعتبر كل ما أقوم به مجرد عبث. لذلك لم تكن تتورع في إتلاف رسوماتي. فقد حدث مرة أن خبأت مجموعة من الرسومات على الورق في مكان آمن داخل بيتنا في رودز، ولدى عودتي لإلقاء نظرة عليها، اكتشفت أنها اختفت... لقد تم تنظيف المكان. كانت تلك الأوراق تضم أشياء كثيرة على قدر كبير من الأهمية.

قمت بإهداء أعمال مهمة لمتحفي رودز ومونبولييه، في حين لم تحظ مدينة سيت، حيث تعيش، بنفس المبادرة. ألا تفكر في الأمر؟  

          لا، لم أفكر في شيء على الإطلاق، على الرغم من أن أشخاصا كثيرين فكروا في ذلك نيابة عني! حين كان السيد إيف مارشان عمدة لمدينة سيت، فكر في خلق متحف وكان قد طلب مني أعمالا لهذا المشروع. كما أنه فاتح بعض المهندسين المعماريين في المشروع، خاصة بول آندرو، وهو صديق توفي مؤخرا. والحقيقة أن هذا المتحف بقي مجرد مشروع فقط؛ وكان عبارة عن بناية غير مكتملة تقع عند منحدر مقلع. لقد كانت الفكرة مهمة إلا أنها لم تتحقق. إذ تحول، فيما بعد، إلى مشروع عقاري. وبسبب ذلك، لم أحسم في الموضوع، وتركت الأمر مفتوحا من دون أن أعبر عن موافقتي أو رفضي. إذ لم يكن ممكنا أن أتخذ مثل هذه المبادرة مادام المشروع قد تم التخلي عنه. وفي المقابل، استغلت مدينتا مونبولييه ورودز الفرصة وحصلتا على أعمال لمتحفيهما.

هل مازالت علاقتك جيدة بعمدة مدينة سيت؟  

          نعم، إنها جيدة، ويرجع الفضل في ذلك إلى رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون. فقد زارني مرة رفقة زوجته لاحتساء فنجان قهوة، قبل أن ينضم إلينا السيد العمدة فرانسوا كومينهايس.

كيف استقبلت هذه الزيارة الرئاسية الخاصة إلى بيتك؟

          إنهما زوجان منفتحان ويَقِضَان وذكيان ووَدُودان للغاية كذلك. لقد تصرفا معي مثل أصدقاء قدامى. كما أن لهما ثقافة واسعة. أذكر، بينما كنا على مائدة الأكل، أردت الاستشهاد بجملة لمالارميه، وبمجرد ما نطقت بدايتها، حتى أوقفني الرئيس وأتمم البقية إلى آخرها، بل أشار كذلك إلى تناغم هذا النص مع عملي، ومع أفكاري، الأمر الذي أثار إعجابي حقيقة.

كيف وجدت الرئيس من الناحية السياسية؟

          لا أعرف. إنه يجتاز مرحلة سيئة، في الوقت الراهن، مع ذلك.

هل تنتمي إلى اليسار؟  

          لم يسبق لي أن كنت شيوعيا. كان صديقي غي كاركاسون، وهو من المقريبن من ميشال روكار، يقول لي: " إنك الفنان أو المثقف الوحيد، ممن أعرف، الذي لم يسبق له أن كان شيوعيا ". لقد كان الأمر غير مستساغ ألا يكون المرء شيوعيا في مرحلة تحرير فرنسا من احتلال الجيوش النازية.

شعوري يميل، ولا شك، إلى اليسار، لكنني أعتبر نفسي جمهوريا حقيقيا بدرجة أولى. وفي كل الأحوال، كنت ضد الفاشية منذ البداية. فبعد قيام الحرب الإسبانية، كنت مستعدا، سنة أو سنتين بعد ذلك، للانضمام إلى الأولوية الدولية (***).

باستثناء إيمنويل ماكرون، هل لديك بعض الذكريات مع رؤساء آخرين؟

          بكل تأكيد. لقد تعرفت على كثير منهم. شارل دوغول أولا، وقد التقيته أول مرة في افتتاح أحد المعارض. وقد قال لي بتلك النبرة الخاصة التي يعرفها الجميع (يقوم بتقليد صوت الجنرال): " يقولون لي إن الرسم الفرنسي ليس في حالة جيدة، ما رأيك أيها الفنان؟" أجبته: " سيدي الجنرال، ليس تماما، لكنه مستهدف وينبغي الدفاع عنه. فرد علي قائلا: " اربط الاتصال بأندريه مالرو! (كان وزيرا للثقافة آنذاك) ".

هل كنت على سابق معرفة بمالرو؟

          نعم. حصل أن اتصل بي، مرة، في شأن منحي وسام جوقة الشرف، وطلب مني تحرير طلب في الموضوع. إلا أنني رفضت وأوضحت له أن طلب الأوسمة ليس من عاداتي. ليرد علي مستاءً " أنس الأمر ".

لكنك وُشحت، فيما بعد، بوسام الصليب الأكبر لجوقة الشرف؟

          صحيح، وكان فرانسوا هولاند هو من قلدني هذا الوسام في الإيليزيه (القصر الرئاسي). ولقد سبق لي أن التقيت هولاند ثلاث مرات؛ مرتين برودز، أثناء زيارته لورش بناء متحف المدينة، ثم في المرة الثالثة أثناء تدشينه.

أما وسام فارس من الدرجة الأولى، فقد اقتُرح علي من طرف جورج بومبيدو، وكنت ساعتها قد نظمت معارض كثيرة في الخارج. فكان أن بعث لي برسالة خطية يطلب مني قبول هذا التوشيح نظير ما قدمته لفرنسا. لقد فكر بومبيدو، وكان وقتها وزيرا أول، في مكافأتي، حيث تكلف مدير ديوانه بتعبئة مطبوع طلب التوشيح نيابة عني، إلا أنني فضلت أن يُمْنَح هذا الشرف لوالد زوجتي كوليت، الذي كان طيارا خلال الحرب العالمية الأولى (1914 / 1918).

هل تحتفظ ببعض الذكريات مع رؤساء آخرين؟  

          طبعا. سبق لساركوزي أن زار مرسمي مع رفيقته كارلا، التي كانت لديها ردود فعل لطيفة للغاية أمام لوحاتي. أما فرانسوا ميتيران، فلم تكن لي معه أية علاقة تذكر. وبخصوص جيسكار ديستان فقد دعاني، مرة، إلى قصر الإيليزيه، في حفل استقبال أقيم على شرف رئيس البرتغال الجديد آنذاك السيد كوستا غوميز، الذي كان لي سابق معرفة به في أحد معارضي بمدينة لشبونة. وأثناء ذلك الحفل، طلب مني جاك شيراك أن أمده بعنواني في باريس. وأتذكر أن جيسكار استطاع تحديد موقعه بسرعة فائقة.

هل من شخصيات سياسية أخرى استطاعت أن تثير انتباهك؟

          نعم، هناك شخصية أثارت إعجابي بشكل غريب. يتعلق الأمر ب: إيدوارد بالادير(شغل منصب الوزير الأول ما بين 1993 و 1995 على عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتيران). أذكر أنه كان مهتما بالفن التشكيلي، بل حريصا على حضور كل المعارض، بشغف كبير وليس فقط من أجل تسجيل حضوره.

كما أكن تقديرا خاصا ل: لوران فابيوس (الوزير الأول على عهد فرانسوا ميتيران في الفترة ما بين 1984 و1986)، وكان يقطن إلى جواري في باريس. أعتبره فابيوس مثقفا كبيرا وذكيا ومنفتحا. ثم هناك أيضا ميشال روكار (أحد أبز وجوه الحزب الاشتراكي الفرنسي، كان وزيرا أول في حكومة فرانسوا ميتيران ما بين 1988 و 1991)، وكان من الأصدقاء الذين أحبهم كثيرا. أذكر أن ماكرون استفسرني مرة عن علاقتي به. الحقيقة أنها كانت علاقة ودية وليست سياسية بالمرة، وأنا من صنع الصليب الموضوع على قبره ب: كورسيكا.

هل لديك أي فكرة عن المكان الذي ستدفن فيه؟  

          ما هو مؤكد أنني لا أريد أن أدفن في رودز. لقد حجزت لي قبرا في مقبرة سيت المطلقة على البحر. والطريف في هذا القبر أنه محمي بمادة سوداء. على أن هناك من الأصدقاء ممن يقول لي إن قبرك سيكون في مقبرة مونبارناس في باريس. في الواقع، لا أبالي بالمرة. ما يهمني حقا، هو أن أعيش خلود لوحاتي.


لقد كان زواجك كذلك في مدينة سيت.

          نعم، تزوجت كوليت في العام 1942، وكنت قد التقيتها في مدرسة الفنون الجميلة في مونبولييه، التي كنت أُحَضِّر فيها شهادة معلم لمادة الرسم. اكتشفنا، وقتها، أننا نحب نفس الأشياء. جرى حفل قراننا، عند منتصف الليل، في كنيسة سانت لويس في سيت، حيث كنا نحن الاثنين نعتمر لباسا أسود.

لماذا اخترتما توقيت منتصف الليل بالضبط؟

          لا أتذكر السبب جيدا. ما أتذكره هو أنه كان حفلا عائليا بسيطا. إنه زواج لا زال مستمرا منذ ست وسبعين سنة!

هل جئت إلى مدينة مونبولييه من أجل الدراسة؟

          صحيح. ما زلت أحتفظ بذكرى قوية عن يوم مجيئي إلى مونبولييه وكان ذلك في 13 فبراير 1941. نزلت في فندق كان يسمى " جَرَس رودز "، وكان فندقا طريفا. وقد تصادف ذلك مع وقوف بضعة أشخاص، غير بعيد عن الفندق، أمام مقر المحافظة وهم يرددون شعارا حفظته على الفور يقول: " نريد خبزا! " في الواقع، كان هؤلاء الأشخاص يصرخون: " عاش بيتان " (هناك تقارب صوتي بين كلمة خبز / Pain واسم الماريشال الفرنسي Pétain الذي اعتبر بطلا قوميا خلال الحرب العالمية الأولى، إلا أنه اختار الهدنة مع الألمان عند غزوهم لفرنسا مما اعتبر خيانة عظمى من طرفه)، لأن هذا الأخير كان قد حل، في ذلك اليوم، بمدينة مونبولييه رفقة الجنرال فرانكو. عدت إلى الفندق ولم أستطع النوم، لقد كنت أشعر بيأس كبير. وفي الغد، وجدت ضالتي في متحف فابر.

هل كنت قد وجدت ضالتك في الرسم؟  

          نعم، لقد كنت مشدودا إلى أعمال زورباران وكومبانا وفيرونيس بشكل خاص. وأيضا كوربي ومستحماته، التي وجدت فيها عزائي. إن انجذابي إلى متحف فابر يرجع إلى تلك المرحلة بالضبط.

سنوات بعد ذلك، سيكتشف الجمهور أعمالك.

          بالضبط، ويعود الفضل في ذلك إلى جورج فريش (عمدة سابق لمدينة مونبولييه) الذي اقترح علي عرض لوحاتي في فضاءات أخرى بالمدينة مثل: مقر المحافظة القديم بساحة لاكانورنغ وأيضا دير أورسولين. بل لقد كان يفكر في بناء متحف للفن المعاصر، وكان يرشحني لكي أكون أول من يعرض فيه، لكنني فضلت أن أكون آخر من يعرض في متحف فابر، الذي تربطني به علاقة وجدانية خاصة.

أذكر أنني، أثناء زيارتي لهذا الفضاء رفقة فريش، اكتشفت ساحة في خلفية هذا المبنى، وكانت تستغل، عادة، في تنظيم العروض الفنية. من هنا جاء اقتراحي لعمدة المدينة بأن تتم إضافة مبنى جديدا يخصص للمقتنيات الفنية المعاصرة.  وهذا ما كان. حيث أتاح لي هذا الفضاء الجديد عرض لوحاتي وهي مشدودة إلى السقف. وهي الطريقة التي بت أفضلها حتى اليوم.

وماذا عن المتحف الذي يحمل اسمك في مدينة رودز؟

          كان مارك سونسي، عمدة المدينة وقتها، قد اقترح علي، في البداية، عرض أعمال ورقية في دير كونك، وكان يفكر في تسميته " فضاء سولاج ". ونظرا للإقبال الكبير الذي كان يشهده هذا الفضاء، لم أجد بدا من الموافقة على اقتراحه. ثم بعدها، طلب مني أعمالا طباعية، وأعمال حفر، أي أعمال مطبوعة باختصار شديد.

بعد ذلك، جاء الدور على اللوحات الصباغية، لأن الرجل كان يفكر في خلق متحف. وفي الأخير أبديت موافقتي على المشروع شريطة أن يتم تخصيص قاعة للعرض المؤقت لاستقبال فنانين آخرين. إذ لا يمكن لمتحف أن يستمر في الحياة بالرهان على اسم واحد فقط.

كيف هو إيقاعك في الرسم اليوم؟

          إنه إيقاع غير مستقر. يمكنك أن تطلب رأي بيير أونكروفي، الذي أنجز كاتالوغي الشامل، والذي يزن ما يقارب ثلاثة كيلوغرامات ونصف الكيلوغرام! والحقيقة أنني لم أرسم كثيرا خلال سنة 2016، مقارنة مع سنة 2017، التي تكلف خلالها إيمانويل بيروتان، عارضي الخاص، بتقديم لوحاتي الجديدة في طوكيو. وكما أردد دائما، إن اللوحة التي تشد اهتمامي أكثر هي التي سأقوم برسمها.

عن يومية Midi libre  الفرنسية،  ليوم 24 دجنبر 2018

هوامش:


(*) عبارة عن قاعة فخمة كانت تخصص، منذ سنة 1725، لعرض الأعمال الأكاديمية في الرسم والنحت بشكل خاص. وفي سنة 1780 أصبح اسم " الصالون " يحيل على مناسبة فنية سنوية تستقطب جمهورا عريضا من محبي الفن، كانت تصل أعداده إلى ألف زائر في اليوم الواحد، كما ساهم في تخليق بعض ملامح النقد الفني الحديث، بعدما تحول إلى شبه فضاء عام يلتقي فيه الكتاب والمبدعون لاكتشاف آخر الإبداعات الفنية ومناقشتها.

(**)  لوحة فنية ذات موضوعة دينية تنتمي إلى الفن البيزنطي، رسمها الفنان الإيطالي سيمابي في حدود نهاية القرن الثالث عشر، كان نابليون بونابارت قد نقلها إلى فرنسا كغنيمة حرب، أثناء احتلال جيوشه لإيطاليا في سنة 1813.

(***) هي مجموعة مسلحة تكونت بين سنتي 1936 و1938، من متطوعين جمهوريين ينتمون ل 53 دولة، لمقاومة الفاشية الفرانكاوية (نسبة إلى الجنرال فرانكو) خلال الحرب الأهلية الإسبانية.