ILA MAGAZINE
الإقامة في الراهن
مي مظفر
هل منّا من تخيّل رؤية عواصم العالم المكتظة بشرًا وحركةً وتلوثا أن تنهزم بين ليلة وضحاها أما عدو شبحي فتخلو من كل صوت وحركة إلا من خرير ماء نافورات يتدفق منها الماء بإيقاع جميل ونصب فنية تحيي الفراغ الذي لم تشهد له مثيل. كأننا أمام مشهد سوريالي. توقفت حركة السيارات والقطارات والبواخر والطائرات والأسواق والتجمعات، بل توقف الاقتتال الذي نجهل أسبابه، أو كاد. هرب سكان الأرض يحتمون بدورهم أو ما تيسر لهم من سكن. بدأنا نسمع عن طبيعة تتنفس وتلوث يتراجع وقطعان حيوانات اتخذت من شوارع المدن الحضارية ملاعبا. وانطلقت الطيور سابحة في سماء نقية.
هل جائحة كورونا- أيا كان مصدرها ومسببها- بلاء قد حلّ فعلا ليلقن الإنسان عظة ويردع غطرسته؟ أجاء ليقول للعالم كفى تماديا وجشعا وظلما وأنانية. التشرد والفقر والجوع في كل مكان. الرعب والموت والمعاناة شمل الأرض ومن عليها. موارد الأرض في تضاؤل والحيوانات تنقرض، الغابات تختفي والأنهر تجف، ثمة مدن قد تخسف. إنها ظواهر حذّر ويحذر منها العلماء. فنحن أمام تهلكة ورد مثيلها في قصص الأديان ودفعت الأمم إلى تغيير مسار حياتها.
إنها الطبيعة تقف بكل كبريائها لتقول إنها في غنى عن الإنسان فهو تابعها ولا غنى له عنها.
هل هذا يعني أنه حين يزول هذا الوباء سيكون لنظام الحياة شكل آخر!
قد لا يكون بوسعي تصور نمط حياتنا بعد كورونا. فأنا واحدة ممن تعلم أن يقيم في الراهن فقط وفارقت منذ عقود فكرة التخطيط للمستقبل. لقد مررنا بأخطار وضعتنا أمام الموت في كل لحظة فأصبح المستقبل بلا وجه. سنبقى مهددين. وما كورونا إلا آخر فصول تجاربنا المتسلسلة.
حياتي بعد كورونا لن تختلف عما كانت عليه. ويؤسفني أنني عشت لأشهد راهننا المحيّر بظلمه وظلامه. كورونا منحتني فرصة الانعزال والتوقف عن الحركة والتركيز على العمل. كنتُ دائما حين أتطلع إلى ماحولي وما لدي من مشاريع تنتظرني أتمنى لو أستطيع الفرار إلى جزيرة نائية أتفرغ فيها للعمل بلا تداخلات. نظّمتُ وقتي بالشكل الذي دأبت عليه منذ عقود، أعمد إلى الكتابة صباحا ولقراءات متفرقة بعد الظهر. استطعت على مدى أيام الحجر أن انتهي من مراجعة كتاب شرعت به قبل ست سنوات وأنا سعيدة للانتهاء منه أخيرا. الكتاب سيكون سردا لسيرة حياة مشتركة جمعتني برافع الناصري على مدى أربعين عاما وبه سأفي له بوعدي.
عمّان- 27 نيسان 2020