(placeholder)

archive

ILA MAGAZINE

Website Building Application


رسالتان حول الفن والشعر والحياة


الرسالة الأولى:

من الفنان عبد الله الهيطوط إلى الفنان عزيز أزغاي


إلى عزيز أزغاي يكتب الشعر ويستريح بالرسم


" أينما ذهبت وجدت أن شاعراً سبقني ". سيغموند فرويد

أقرب شخص إلى الرسام هو الشاعر، معا يغرفان من نفس المَعِين وينظران في نفس الاتجاه. لذلك، لا يمكن تفسير الشعر بالشعر، لأن اللغة الشعرية تضيع العمل الصباغي، فهي  إما تكون فوقه أو تحته أو متخلِّفة عنه بكثير. كيف للعمل اللحاق بها وهي تحلِّق في عنان السماء...؟ فاتني أن أكون شاعر.

2 -

كل ما في الأمر أنني أريد فقط أن أرسم بسلام وأستأنف حياة الطفل الذي كنته ذات يوم، أستأنف حياتي كطفل. فعل الرسم هو الوسيلة الوحيدة كي أظل طفلاً. في تلك الحياة، كنت أحب عفوية الحركات على سطوح الجدران والأبواب، الأمر برمته يتعلق بأيقونات الصغر. لازلت دائما أسير تلك اللطخة على جدار بيتنا، عندما يسيل الماء على طين السقف ويحدث تلك البقع البنية والأوكر الأصفر على بياض الجير (...) أعتبر أن المطر يصبغ أحسن مني. الصباغة، جزء كبير منها عبارة عن استدراك.

3 -

كنت أقول دائما إنني أحب الورق، ليس لدي تفسير محدد لذلك. الاشتغال على الورق دائما يكون مينيماليا إقلاليا، ليس لأن الحجم الصغير يتطلب أن تحكي أقل، لأن طبيعة الورق الهشة تستدعي البناء على التخفيف والإقلال.

4 -

صديقي، أرسم بقلبك ثم أعد المحاولة في رأسك. هناك مؤشر واحد على أن تجربة الفنان نضجت، هو حينما تستوي صباغته. في حياتي السالفة، قابلت أناسا كثيرين عاديين – فنانين- يمكن القول إنهم فنانون في حالة كمون؛ يرسمون بعيونهم فقط. أعتقد أن الفنان هو فنان ليس لأنه يمتلك يدا، بل لأنه يمتلك عينا. أحيانا الذكاء البصري يكون حاسما، بيد أني أعتقد أن هذا النوع من الذكاء، وحده، لا يكفي كي ينتج فنا، ربما قد يميز الفنان عن الحرفي أو الصانع. نعم، إن العين تلك التي في دواخلنا هي التي توازن العزف؛ العين الداخلية هي العين.

5 -

أعتقد أن قراءة كتاب، هو عبارة عن كومة من الورق، أو مشاهدة فيلم، أو سماع مقطوعة موسيقية قد يجعلك، دائما، محاصرا بالوقت. وحدها مشاهدة لوحة، وهو أمر يحصل في لمح البصر، تحدث رنينا فوريا داخلنا فنتابع النظر، أو سرعان ما نبتعد عنها ونصرف النظر. اللوحة لا تأتي من العدم، إنها تنفجر من الأحشاء. إن مشاهدة اللوحة لا يعطلك لوقت طويل حتى تسقط في غرامها أو تنفض يدك منها.

الكتابة تتطلب منك أن مجهودا قرائيا كبيرا، أما كي ترسم فأنت غير مطالب بأن ترى صباغات كثيرة، ربما العكس، فكثرة النظر قد تعيق عملية الرسم وتشوش عليها. النظر الكثير في صباغة الآخرين يفسد شيئا مهما عليه أن يتكون داخلك، ينمو بأشياء أخرى ليست الصباغة ضمنها، قد تكون نغمة موسيقية أو رائحة طبيخ لذيذ أو كلمات شعرية لصلاة بوذية.

كي تصبغ عليك أن ترى الناس والمدن وتعيش الحياة. السفر يفيد الصباغة أكثر من المتاحف. عليهم أن يهدموا المتاحف، فلا طائل يرجى منها يا صديقي.

محبتي مولانا الجميل



الرسالة الثانية:

جواب الفنان عزيز أزغاي


مولانا الفنان المُجيد عبد الله الهيطوط،


تعتبر الرسائل الخاصة من بين أجمل الهدايا، التي يمكن لشاعر أو فنان، أو أي مشتغل بالإبداع، أن يتلقاها من صديق، لا سيما إذا كانت تختلف، من حيث شكلها ومضمونها، عن الرسائل العادية. أتحدث هنا عن تلك النوعية من الرسائل الشفافة، المتسائلة، القلقة والمستفسرة، التي تناقش قضايا وإشكالات فنية وإبداعية غير محسومة.

مثل هذه الرسائل تعيد أقدامنا إلى تراب الأرض، وتجعلنا نعيد مراجعة أفكارنا للتحقق من سلامتها وصوابها، بل تدفعنا إلى التشكيك في كل ما راكمناه من قناعات وتصورات في شأن ما نقوم بإبداعه أو ما نفكر فيه.

ربما وجدت في مقولة فرويد، التي استهللت بها رسالتك، ما يؤكد الجانب النبوئي للشعر، من حيث هو خطاب " يرى " ( من الرؤيا )، ويتعدى شرط الزمن. إنه خطاب يستمد روحه الخلاقة من طبيعة الإنسان الغامضة، المتحولة والجبارة، التي تستند على طاقة العقل المتأمل لمجرى الأحداث وتغيرات أحوال العالم.

من هنا كان الشعر، ولا يزال، قرينا سياميا للرسم، بل أكاد أقول أخا أصغر للتشكيل بتوسيع المجال، مادام الإنسان الأول قد وعى العالم بواسطة العين، التي رأت قبل أن تعبر عن موضوع مشاهداتها بالرسم، الذي تحول، لاحقا، إلى أبجديات، أي إلى لغة معيارية مخصوصة.

من هنا صعوبة قراءة العمل الفني شعريا، لا سيما حين نستحضر سؤال المعنى. فإذا كان الشعر لا يستقيم إلا بتحقق معناه، فإن التشكيل عامة والتصوير الصباغي حصرا، يضع نفسه خارج إكراه المعنى، على اعتبار أن كل مكوناته، الموضوعاتية والتقنية والفضائية، تملك من الإمكانات التعبيرية ما قد يفوق منطق العقل وحدود الإدراك. إنه عالم مستقل بإغرائه، ومن تم قدرته على خلق الإدهاش والارتباك، مما قد يقدمه من " غموض فعال " ينأى بنفسه عن لغة التفسير الواحد السهل والمتاح. ولعل هذه الخصيصة هي ما يشكل روح التشكيل ونسغه.

2 -

كثيرا ما نقف أمام لوحة أو منحوتة ونصاب بالانجذاب إليها دون أن نكون قادرين على تفسير سبب ذلك. نفس العجز قد نحسه أمام عطر وردة، أو حينما ننصت إلى الموسيقي. في الحالتين معا نكون أمام إحساس كبير بالسعادة والانتشاء، دونما أدنى قدرة على إعطاء تفسير مقنع لمثل هذه الأحاسيس الكبيرة. نقاش مثل هذا يؤكد على مسألة المعنى سالفة الذكر، وبالتالي، ليس مطلوبا منا إجهاد أنفسنا لإيجاد تفسيرات بسيطة ومتسرعة لأشياء تقع في خارج منطقة خيال التخييل. لذلك، أنظر، أستمتع، وأكتفي بإكناز النظرات. هذه وظيفتي كفنان يستريح تحت خيمة الشعر.

3 –

بالفعل، يكاد يكون فعل الرسم والتصوير حبل سرتنا الأبدي الذي يصلنا بطفولاتنا البعيدة. نميل إلى الرسم قبل وعينا بالحياة وإكراهاتها. خربشاتنا الأولى عادة ما تكون حالة من الطهرانية في التعبير عن العالم الذي يحيط بنا. منتهى الصدق والتلقائية والانسيابية. نمضي معظم حياتنا في تجريب الأساليب والتقنيات، نكتشف الأسرار والألغاز والمقالب، نبدع بهمة ناضجة وحذرة، وقبل أن نغلق دائرة الحياة، يعود الشاطر النبيه والعميق منا إلى تلك النقطة  الأولى، نقطة الخربشات التلقائية غير المتكلفة، خربشات الطفولة العميقة ببساطتها والمدهشة بتراكيبها.

تذكرني هذه العودة إلى البدايات بنقطة التحول الكبرى التي صنعت من بيكاسو ما أصبح عليه في مدونة تاريخ الفن الحديث والمعاصر، بعدما استفاد من الفنون الإفريقية والإيبيرية والفرعونية، وكلها فنون لم يكن يأخذها الفن الأكاديمي الغربي " الناضج " محمل الجد! إنها، بمعنى آخر، عودة إلى مرحلة الطفولة، وانتباه ذكي لما تجود به درجة الوعي في هذه المرحلة من حياة الإنسان من إمكانات إبداعية خلاقة لم تلوثها بعد تيارات الفهم المتعالم الجارفة.

لذلك، حينما تحلم بأن تستأنف حياة الطفل الذي كنته، وتعتبر أن الرسم هو الوسيلة الوحيدة التي تضمن لك ذلك، فإنك لا تعدو تمني النفس بأعز ما يطلب، أي الارتقاء بالممارسة الفنية إلى درجة الصفاء المطلق والتلقائية الغير الملوثة بالفهم المتعالم وبالأفكار الانقلابية الكبيرة. من منا لا يحلم بذلك، أقصد أن يكون فنانا بمشاعر طفل؟  أشاطرك الحلم مولانا.

4 –

ليس الورق أو القماش مجرد أسندة  أو حوامل ننجز فوقها ما نفكر فيه، هي أكثر من ذلك بكثر. إنها تاريخ لخامة ما، ذاكرة تخزل مسار مواد طبيعية خضعت لسيرورة من التحول والتغيير والتحويل، إلى أن استوت على ما هي عليه. وحين يختارها الفنان حاملا لعمله، تتخذ حياة أخرى جديدة، تنتقل من مسارها العادي البسيط إلى مسار آخر أكثر نبلا وديمومة ورفاهية. مثل هذا الكلام يذكرني بحديث سابق لك عن روح الورق في علاقته بالقماش.

استمرارا لمثل هذا النقاش المفيد أسأل بدوري، ماذا كان سيكون مصير القماشة التي رسم عليها دافنتشي جوكندته لو لم يخترها لعمله؟ ربما كانت ستصبح سروال فلاح أو سترة راهب أو غطاء سرير في مبغى، أو مجرد كيس تعبأ فيه الحنطة. والورق الذي رسم عليه عباس صلادي مخلوقاته العجيبة، ماذا كان سيحل به لو لم يتخذه سندا لرسوماته الغرائبية؟ إنها مجرد أسئلة تحاول تأمل ذلك الحظ السعيد الذي صادفته المواد الطبيعية الأولية التي نضمنها أعمالنا الفنية.

أما عن اختيار الاشتغال على الورق من أحجام صغيرة، فلا أخفيك أنني وجدت فيه، منذ سنتين، ضالتي على أكثر من مستوى. فمن جهة، أتاح لي، بسبب هشاشته وطبيعته المتشربة، إمكانات تجريب إبداعية لا حصر لها، كما أنه يعتبر حلا سحريا بالنسبة لمن لا يملك  فضاء عمل خاصا ومريحا يسع أحجام القماش أو الخشب الكبيرة، من جهة ثانية. عطفا على ذلك، أعتبر الورق، بأحجامه الصغيرة، فرصتي المخبرية التجريبية للتمرن على مشاريع فنية قد أنقلها، فيما بعد، إلى سندات أخرى وبأحجام كبيرة. ثم فوق كل ذلك وقبله، هل ثمة فنان حقيقي لا يستطيع أن يحس بأن للورق لذته الفريدة التي لا تقاوم، شخصيا، لا أكاد تصور ذلك. الورق؟ لا لهذا النبيل المدثر بالهشاشة.

5 –

يعجبني تعبير " الوعي البصري "، الذي سبق للشاعر والروائي المغربي حسن نجمي أن وظفه في أحد مقالاته. تعبير ذكي يختزل تلك القدرة الهائلة، التي يمكن للعين أن تضطلع بها كحاسة مركزية موجهة لباقي الحواس. وعلى الرغم من أنه يختزل مرحلة تالية على عملية الإبصار أو الرؤية، وهي مرحلة الوعي، إلا أنه يكشف عن تلك الطاقة الهائلة، التي تحظى بها العين، وخاصة في مجال الإبداع الفني.

تقول في رسالتك: " أرسم بقلبك ثم أعد المحاولة في رأسك ". أفضل تغيير كلمة " قلبك " ب " عينك " لتصبح العبارة على الشكل التالي: " ارسم بعينك ثم أعد المحاولة في رأسك "، بالمعنى الذي يحترم المنطق الطبيعي للأولويات. إننا لا نرسم، في أول الأمر وآخره، إلا ظلال ما نراه وما يشبهه ويومئ إليه فقط، أو ما يحيل على بعض تفاصيله متناهية الصغر. وفي سياق هذا الفعل الإبداعي الهائل، أي رسم ما نرى، تقوم العين باستحضار، ما يسميه السيميائي المغربي سعيد بنكراد ب " تاريخ النظرة "، وليس فقط حاضرها، في عملية استرجاعية Flach – back، تقودنا إلى توظيف لا شعور العين وذاكرتها. وهذه واحدة من طاقات العين الخارقة.

يقودني هذا النقاش الخصب إلى الحديث عن بعض التجارب الغريبة المتصلة بالرسم وبفن التصوير تحديدا، من قبيل ما بتنا نسمعه عن فنانين عميان حقيقة وليس مجازا! هذا الأمر يدفعني إلى التساؤل عن عين فاقد البصر؟ عن حساسيته الجمالية؟ عن تمثله للأشكال والأحجام والفضاء والألوان؟ ألا تعتقد، بعيدا عن حاسة الرؤية، أن أساس روح الإبداع تتصل ب " الرؤيا " – Vision أكثر من اتصالها بالعين كجهاز يملكه أغلب البشر؟ ثم ما جدوى عين المبصر، خارج وظيفة النظر، إذا لم تكن لها طموحات أخرى أكثر خلقا وفعالية، من قبيل فَلْتَرَة ما يُرى وتحويله من مشترك سائد إلى شيء جديد طريف يدهش جموع المبصرين؟ هكذا أتمثل موضوع العين في الفن وفي الحياة على حد سواء، وهو تمثل يتقاطع، ولا شك، مع ما جاء في كلامك آنفا ويزكي طموحه.

5 –

السقوط في حب عمل فني ما يشبه صعقة الحب الأول؛ إحساس تختلط فيه الرهبة بالرغبة، الفرح بالقلق، والامتلاء بالفراغ، بسبب هذا الاكتشاف الممتع والغريب والطارئ. وإذا كان إبداع عمل فني مدهش لا يتطلب إلماما بتاريخ الفن، على أهميته المعرفية، إلا أنه يحتاج، في المقابل، إلى روح وثابة وعاشقة، إلى كائن يملك من خيال خلاق ومبدع ما يفيض عن الحاجة.

مقارنة بالكتابة التي تبقى محكومة بصرامة منطقها اللغوي والأسلوبي وبالمواضعات الموروثة التي سنها نحاتها، يبقى فن التصوير ميالا أكثر، بل مطلوب منه، إلى الانزياح عن مثل هاته المواضعات والقواعد والضوابط المرعية. لا ينبغي، والحالة هاته، تصور الأمر كأنه دعوة إلى العبث والمجانية والإسفاف، تذكر معي أنني تحدثت، وأنا أضع توصيفا للفنان الذي نسعى إلى الاقتراب منه، عن " كائن يملك من الخيال الخلاق المبدع ما يفيض عن حاجته ".

تحدثتَ بصوت الفنان الذي فيك عن ضرورة اكتشاف المدن ومحبة الحياة، كما تطرقت إلى فائدة السفر للصباغة أكثر من زيارة المتاحف. أتفق معك جملة وتفصيلا. وفي نفس السياق يحضرني صوت الجاحظ الذي أشار إلى أن " المعاني مطروحة في الطريق ... " تحتاج فقط إلى من يعثر عليها. مقولة تنطبق على الفنان بحصر نوعية الفاعل، بل وعلى كل إنسان عاقل عامة، يطمح إلى إعطاء معنى لكينونته، أو - على الأقل - لتيسير أمر عبوره فوق هذه الأرض.

أفكر، أحيانا، في واقعنا، نحن سكان المدن الكبرى، وكيف أصبحنا نذرع الأزقة والشوارع والجادات ونحن مطأطئو الرؤوس، كما لو كنا نبحث عن متاع سقط من عابرين قبلنا! وأثناء هذا المشي " النائم " نضيع على أنفسنا النظر إلى السماء وإلى زخارف المباني الجميلة، بل وإلى وجوه بعضنا البعض... وبكلمة واحدة: نربي في عيوننا ورم الكسل، بل إننا نبطل بعضا من ملكاتها، وأتحدث هنا عن للفنان، على سبيل المثال لا الحصر، عن التقاط الطارئ والمفارق والطريف، وهي كلها عناوين لا يمكن لأي عمل فني أن يثير الانتباه إلا بتظافرها أو بتحقق أحدها. ولعل هذا هو سر سقوطنا الجماعي في حب عمل فني ما، والذي شبهته ب " صعقة الحب الأول ".

وكل حب وأنت بخير يا فنان.