ILA MAGAZINE

الأدب والفن في زمن الأوبئة ll

إشراف : د. صالح الرزوق

لا جدال أن كورونا نقطة مفصلية في تاريخ البشرية المعاصر، وسيكون ما بعد تفشيه المروع مختلفا تماما عما قبله. لقد عبثت يده في عالمنا، وأحدثت متغيرات في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل وفي أدق تفاصيل علاقات الإنسان بأخيه الإنسان. كيف تنظر لهذه المتغيرات، وهل أثرت " سلبا أم إيجابا " على نتاجك الفني والمعرفي؟.

وهل تعتقد أن ردة فعل الجميع متساوية. وماذا عن خططك للمستقبل وأعمالك التالية. هل ستكون تأملات في عصر كورونا، بشكل مباشر أو غير مباشر، أم لديك اهتمامات تعتقد أنها أغنى و أعمق؟.

وجهنا هذه الأسئلة لمجموعة من الزملاء الفنانين والأدباء المعروفين، أو من هم وسط الطريق نحو مشروع لم تتضح معالمه بعد. ووردتنا الأجوبة التالية. ونرتبها حسب تسلسل الأحرف الأبجدية لاسم الكنية.

عمار داود / رسام - السويد

  لا أستطيع، ونحن جميعا في معمعة اللغط المستمر والتوقعات الكثيرة، أن أتنبأ بما سيكون عليه زمن ما بعد كورونا، ولم أركن لحد الان الى اي صيغة وصفية لشكل العلاقات الانسانية ما بعد هذا الزمن، الشيء الذي أؤمن به  الآن هو أن الإنسان كائن دنيء، لا يستحق أن نضعه في منزلة أعلى من منازل بقية المخلوقات، لم اعد - ومنذ زمن طويل - أثق به، والعن القدر الاعمى الذي اختار لي كينونة ونظاما بيولوجيا كإنسان، وأرغمني على أن أكون حاضرا في تلك الحفلة العبثية الكبيرة للحياة الانسانية، بطقوسها المليئة بالانانية والشراهة وولع تكديس الثروات، والتدافع الهستيري بهدف الوصول إلى مصادر القيمة.

لا أجد ولم اجد يوما أن للفن تلك القدرة على إحداث تغيير عملي للواقع المعيش، بل انا اقرب الى اعتباره ليس أكثر من صنعة يمارسها بعض الناس تتخللها المتعة والرغبة في مداولة النشاط التعبيري والدلالي بين النخب الراغبة فيه، إن صناعة الخبز والصابون وبسترة الحليب وقطف الثمار وجمع المحاصيل الزراعية وبناء البيوت وغير ذلك من لوازم الحياة العملية هي أكثر تأثيرا في حياة الناس من الفن.

لا توجد عندي خطط أخرى للمستقبل، غير ممارسة الرسم وتلك التحرزات التي يمكنها أن تجنبني المرض وعذاباته، اتمنى ان تنتهي حياتي بغير معاناة جسدية، لقد أُتخِمت روحي بالم وجودي الغير الضروري لحياة الطبيعة و نزلائها من الكائنات الاخرى، انني اعد نفسي للابتعاد قدر الإمكان عن مواطن الحزن ومصادر القرف الذي يعتريني وأنا ارى تشوهات روح الانسان، سأمجد العزلة.

هذه الأرض التي نطأها ليست ملكنا وحدنا، ولسنا أوصياء عليها، انها ارض أصحاب العيون البريئة: الحيوانات، وارض الأشجار بظلالها الوارفة، أرض الأنهار والبحيرات والبحار بكل مجد أسرارها، أرض الصخور التي ترسم تشققاتها تاريخا مجيدا لحركة الكون ولغته الشعرية الآسرة.

في هذا الزمن الرديء، لا اهتمامات لي من النوع الاستثنائي: سأعيش لأراقب مسيرة الإنسان وهو يندب حظه العاثر بسبب وعيه الرديء الذي هيأ له  كل شروط السقوط في الهاوية.

سارة درويش / محررة في اليوم السابع - مصر

- بالنسبة لي حتى الآن أرى تأثير كورونا إيجابيًا، تحولت إلى العمل من المنزل، أدير فريقًا عن بعد ونجحت في المهمة.  حظيت بوقت أكثر في البيت، بالتالي حظيت بفرصة أفضل للقراءة حتى أنني تجاوزت خططي السنوية للقراءة بكتابين حتى الآن، أجد وقتًا أكبر للتدوين، ومشاهدة الأفلام.  

ولكن هل ردة فعل الجميع متساوية.  - لا أعتقد أن ردة فعل الجميع متساوية على الإطلاق، البعض اغتنم الفرصة ويتكيف مع الوضع قدر الإمكان، والبعض الآخر حياته توقفت في انتظار انتهاء الإغلاق ويشعر بالملل والوحدة والحصار للجلوس في المنزل.  

- حتى الآن كتبت بالفعل عدة مقالات تتأمل في الوضع الحالي وردات الفعل المختلفة إزاءه، ولكن لا أظن الأمر سيتخطى مقالات. وأخطط للنشاط إلكترونيًا وإدارة جلسة لمناقشة كتابي الأخير عبر "الفيديو كونفرنس.

راشد ذياب / رسام - السودان

يمكنني أن أدرك الجوانب الإيجابية كفنان، من تلك السلبية المتصلة بالآخرين والحنين الممتزج بالقلق، لعل ما يحلم ويتمناه الفنان المبدع هو أن يحقق ذاتيته من خلال عمله الفني في مساحه زمنية ممتدة، بعيداً عن الآخرين، عزلة مكانية وزمانية وقد أتاحت الكورونا قدرا كبيرا من الحرية الذاتية ، بلا ملامة على الفنان في ذلك باعتباره مغتراً أو يعيش في برج عاجي معتكفا عن الآخرين ..

اقتربت من الأشياء وسر علاقتي بها وتوطدت علاقتي بأدواتي، وسوف يؤثر إيجابياً في انتاج أعمال فنية غنية متفردة، بجمع ما كان مبعثرا في ذهني .

التأثير السلبي يتمثل في حالة الانتظار المضنية المستمرة (الإحساس بضنك الآخرين وقدراتهم غير التصدي لحالة الفراغ (القلق، الضجر، الضيق..) لعدم تمكنهم من ملء هذا الفراغ الكبير، لذا تصبح ردة فعل الناس غير متساوية حسب إمكانياتهم العقلية المرتبطة بدرجة الخيال والمعرفه المتجددة وقله الموهبة ..

محسن الرملي / روائي ومترجم - اسبانيا

مثلما أننا لم نتوقع وباء كورونا هذا، فإننا لا نستطيع التكهن بما بعده، والأمر متعلق بمدى طول الفترة التي سيتم فيها إيجاد علاج له، فكلما طالت كلما أحدثت تغيرات جوهرية ودائمة على كل شيء، أما إذا قصرت، فسيكون أثره أقل وسرعان ما يتم تجاوزه وتعود البشرية إلى سابق عهدها ترمم ما تخرب، كما حدث مع تجاربها في أوبئة أخرى كثيرة حدثت في تاريخها.

أما على الصعيد الشخصي، فهو أثر على حاضري اليومي، بسبب ظروف وأسلوب العيش الذي تم فرضه علينا فرضاً، ولكنه لحد الآن، لم يؤثر على أي فكرة أو مشروع مستقبلي أعمل عليه أو في نيتي إنجازه، وبالطبع يبقى الأمر حسب ما سوف تؤدي إليه الأحداث لاحقاً.

أمر الشعور بحضور الموت ومرافقته اليومية، هو ليس بجديد عليّ، بل هو جزء من تركيبتي بحكم الذي عشته في العراق منذ ولادتي، لذا لا يخلو أي عمل لي من وجود لمسات وتأملات قضية الموت فيه... وإذا كان ثمة مخاوف كبيرة منه، عدا الخوف الإنساني الطبيعي والغريزي.. فأكثر ما يحز في نفسي، فيما لو قضى عليّ الآن، هو ترك أطفالي الصغار دون إكمالي لرعايتهم، وعدم إنجاز بضعة كتب، أود قولها قبل أن أرحل.

حكيم العاقل / رسام - اليمن

بالنسبة لي كانسان وفنان تعاظم القلق اكثر فنحن نعيش في حالة حرب مستمرة وحصار وكل منفذ الى اليمن مغلق وهذه الحرب العبثية التي يقودها تجار الحروب ودول الجوار دمرت كل شئ  وقسمت اليمنيين وتأتي جائحة كورونا لتكمل ما تبقى من رمق وأمل في المستقبل.

بالنسبة لى العالم قد تغير والمعادلات القديمة انتهت خاصة بعد هذا الضخ الاعلامي الهائل الذي شكل حيزا معرفيا لمن يفهم ان العالم قد تغير اكيد وهذة الانظمة وصلت الى مرحلة العجز في مواجهة خطر بسيط وتحول الى تهديد للبشرية وهذا يعطي مؤشر  الى ضرورة التخلي عن فكرة الحرب واخضاع البشر لهذا الشكل الجديد من الاستعباد.

لابد من اجراء تعديل جوهري على نمط الحياة والتفكر حتى في مسائلة الدمقراطية والحرية وحقوق الانسان

اتضح ان كل هذا فيه الكثير من التضليل والزيف. وأكثر شئ تضرر في هذه الفوضى هو الفن فالفان اصبح حائرا  في اختيار مواضيعة وتغير في اسلوب التعاطي مع المستجدات التي غيرت كثيرا من انماط العلاقات إلى جانب وضع أجوبة لاسئلة أزلية تورق الفنان.

أنا لم اتوقف عن العمل خاصة ان اليمن الى الان خالية من  وباء كورنا.

المهم اعمل على مشروع (تطهيري) اذا جاز التعبير  يحمل رؤية فلسغية تتلخص بمجموعة من التعاويذات او التمائم  من خلال رسالة كونية ان الانسان والبشرية توجوه خطر ولابد لها ان تنتصر لتستمر الحياة وتظل الآمال معقودة على افعالنا المستقبلية.

سمير عبد الجبار / ممثل في مسرح الشمس - فرنسا

الحياة ليست نهرا هادئا

دكتاتورية كورونا  عدوة الحرية , والفن , والمسرح

يقول برشت:"كلما كان هتلر يحقق انتصاراته في الجبهات العديدة . كنت أزداد اقترابا الآلة آلة الكاتبة»..

هتلر كان يتحسس مسدسه ،  في حين كان برشت يتشبث بالحياة من خلال الكتابة عنها .بينما "ألبير كامو" الذي كتب رواية الطاعون والتي تجري أحداثها في مدينة وهران .. ما هي إلا فعل متخيل من قبل ألبير كامو عن وباء كانت وهران مسرحه تخيليا وروائيا . كان العمل جرس إنذار من قبل كامو عن فعل الوباء في الفتك والخراب . كان الطاعون داخليا  وفيه إحالة للفكر الإنساني القائم على روح الشر والانقسام ... في جميع الأزمات والحروب كان للفن والمسرح دور متضامن و مناهض. يقاوم السلبية ويتعاطف مع الخاسرين ، والمحبطين ، والمقهورين . ...

اليوم في ساعتنا الساخنة جدا هناك نوع من (الموت الجماعي) وهناك بحث عن حياة تخلق توازنا من خلال خلق حياة مضادة.

الإنسانية اليوم واقعة في أتون في جحيم حقيقي ، فما الذي بقي  للفن ، والمسرح بالخصوص  بعد أن أسدلت ستائره وأغلقت أبوابه من فعل.. كل هذا يترك شعورا حادا بالذنب والمسؤولية في البحث عن مبادرة لعمل شيء .. الشعور بالذنب نتيجة (الحيرة ) يقابلها التمسك بالأمل  حسب ألبير كامو (الإنسان مجبول ومدان بالأمل) . في المقابل حجم الأزمة مهول . كل هذا التناقض والالتباس خلق  نوعا من الصدمة لدى جميع الفنانين الخلاقين في الفن التشكيلي أو المسرح أو في السينما . الجميع في حالة من الغليان والبحث عن ما يمكن رغم محدودية الفرص ،  والحركة بسبب قوانين الصحة والممنوعات  والحجر الإجباري.

كرونا سلبت منا الكثير من غرائزنا ومنها وهي غريزة الوجود،  ألغت الكثير من الطقوس والتقاليد الاجتماعية والأخلاقية لدى الناس مثل طقوس الأفراح ، والاحتفال بل حتى طقوس الموت ومراسم الدفن . خلقت شرخا اجتماعيا كبيرا  (التباعد الاجتماعي) والخشية من التعامل مع أقرب الناس إليك .مع غياب المصافحة والابتسامة المشرقة حين تقابل جارك أو صديقا ستحتاج الإنسانية إلى فترة لإعادة هذه السلوكيات المتوارثة  في التعامل مع الآخر حيث لم تعد قبلة الحبيبة ممكنة ، ولا مصافحة أقرب الأصدقاء .

كممثل مسرحي أعمل منذ فترة طويلة في مسرح (الشمس) المعروف عالميا والذي يعتبر واجهة ثقافية وفنية لفرنسا في العالم وسفيرها في المسرح . حيرة السيدة (أريان موشكين)  مديرتنا ومخرجة الفرقة ولوعتها وهي التي  لا تعرف منذ ستين عاما غير العمل الإخراجي المتواصل حيث لايمكنها أن تبقى  دون حراك أو فعل فني أو  إنساني وهي الشخصية الجماهرية ، و الملقبة بفنانة الشعب الفرنسي وبمواقفها التحررية فنيا وسياسيا  شخصية جماهيرية معروفة فنيا وسياسية  . كانت تشغلنا طوال أيام السنة بالتمارين والتدريبات. لكن ومنذ الأزمة أصبحت مواعيدنا وأحاديثنا عبر الانترنيت. ورغم استغراق هذه المحادثات الثلاث ساعات ولثلاث مرات في الأسبوع ناقشنا  مصير الفرقة والمسرح وكيف أن هذه الأزمة لو استمرت يمكن أن تغلق المسرح نهائيا وتتنازل عن بنايته للدولة . نتساءل بعد كل إجتماع عن " ما الذي علينا فعله ".. هي وجدت أن الجهور الفرنسي التواق لمشاهدة عروض مسرح الشمس مع هذه الأزمة سوف لا يأتي كالمعتاد لكي يملأ القاعة . لذلك اقترحت أن نأتي إلى الفرقة الشهر القادم وكل ممثل يحمي نفسة  بالكمامات والقفازات، وصدريات طبية مع أدوات غسل لليدين. ودعت كل ممثل للبحث  عن ثيمات،  ومواقف مسرحية مستوحاة من زمن الكورونا. وأشارت أن  إغلاق المسرح لايجعلنا نستكين للاستسلام  لهذا سنقوم في الارتجال والتصوير المسرحي إلى ما يمكن تحويله إلى فعل تلفزيوني أو عمل سينمائي .. علينا أن نعمل  مثلما تعمل الممرضات ليل نهار .. مثل النساء الجالسات وراء الحاسوب في السوبر ماركيت.  اليابان لن يكون هو مركز بحثنا كما كان مقررا حيث أن العمل المسرحي المقرر كان مستوحى من التقاليد المسرحية في اليابان. ولكن مع تفاقم الوباء قسمت  جميع أعضاء الفرقة إلى مجموعات للبحث عن أصل الوباء -  مجموعة  مختصة بالصين وأخرى  مختصة بأمريكا وكوريا وهونكونغ وتايوان وفرنسا وإيطاليا ثم أفغانستان  و إيران .كل مجموعة عليها البحث  عن سلوك رؤساء دول العالم وردود أفعالهم المضحكة والمنافقة والقائمة على الكذب . علينا أن نعري العالم...

سكوت ماينار / شاعر- الولايات المتحدة

الكتابة في ظل الجائحة مثل ان يضع الإنسان يده على جدار صخري: متجلد وغير نفوذ، خشن التركيب والأطراف كما تشعر من لمسه براحتك وأصابعك- فهو شوائب، وتراب ورطوبة.. وصلابة- ولكن تعلم أنه يجب أن تتابع. مع ذلك يعترض طريقك جدار. وهذا الجدار في داخلك. وهو خارجك. من كلا الطرفين. لاحظ البوذيون ذلك قبلنا حينما قالوا: الداخل، والخارج-  متماثلان.

هل سأكتب في وقت ما عن الفيروس.

سؤال جيد، لكن جوابي: كلا.

كتبت بيتا من الشعر في قصيدة عن موضوع من هذا النوع. ولكن تذكر انني أكتب بروح مرحة غالبا- حتى لو انه مرح حزين!.

تبادر لذهني في أحد المرات:”ماذا يهم إذا كانت النهاية كونية؟. نهايتي كونية بنظري". فاجأني ذلك بفكاهته، ولكنه بنفس الوقت حررني. الطبيعة مختلفة بنظرنا، ولدرجة ملحوظة. غير أنها جميلة. في إحدى المناسبات قال فيلسوف أنا معجب به:"الموت هو أقرب مرشد لنا". إنه يجعل منا أذكياء، ويحسننا، ويزيد من رقتنا وربما من تماسكنا. وهذا ما آمله.

كوفيد 19 مأساة. وهناك مآس كثيرة. ولكن ماذا بوسعنا أن نفعل؟. إن واجب الأحياء أن يبقوا على قيد الحياة. كان والد زوجتي يحتضر، على فراش موته. حينها نظر إلى زوجتي وقال:"يا عزيزتي، انصرفي إلى بيتك. يبدو أنك مرهقة". وانتبهت أنتي لم أكن أنظر إليه كإنسان بطريقه للموت، كما يقول البشر العاديون. كنت أنظر إليه كإنسان على قيد الحياة— حتى في تلك اللحظة، ومن بين كل اللحظات. كنت مصمما على الحياة مثله تماما، وحتى آخر ثانية، لو أمكنني ذلك.

عبدالله الهيطوط / رسام - المغرب

لا شك أن عالم ما بعد كورونا سيكون مختلفاً تماماً عما قبله، رجة كبيرة ستحلق بالعالم؛ متغيرات كثيرة، لا قِبل للإنسان بها، ستطفو على السطح وستمس الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لقد لاحظنا كيف ولد النقاش الذي انتشر في وسائط الاتصال والميديا والنوادي الفكرية والثقافية حول تحديد وإعادة النظر في الأولويات، هذا النقاش الذي أجزم أنه سيتطور، ليصبح فكرياً، وتتمخض عليه فلسفات ونظريات جديدة تُنَظّر لسياسات قادمة ستقلب وجه العالم وتغير معالمه. هذه الارتدادات ستطال كل شيء، والفن بصفة عامة والصباغة والرسم على وجه الخصوص.

أتوقع أن باراديغما فنيا جديدا سيولد بعد زوال الجائحة، مستفيدا من عودة فكر الأنسنة والأخلاق والقيم، بما يعنيه ذلك من انهيار للمال وللفكر الليبيرالي. أنت تذكرني دائماً بشيء ثقيلٍ على الرسام؛ الرسام الذي يكتفي، كما أثرت ذلك، غير ما مرة، بالعزلة والتأمل والاكتشاف، لكن تبقى حياة الصّباغة هي حقّاً الحياة الإيجابية بامتياز.

الصّباغة أبطأ وتأملية وتسمح بالأخطاء والتغييرات. الصّباغة تحدث ببطء تماما مثل الفلسفة التي تأتي متأخرة عن الأحداث وليس في مواكبتها، لأنها ذات منحى تأملي بالطبع. ما حدث بسبب كورونا يعد جللا وهائلا سيكون له تأثير. لكنني الآن أحاول أن أكون في حالة إصغاء. كثيرا ما تجدني مشدوها إلى لا شيء أحاول أن أستوعب ما يحصل في الجوار.. كرسام لا أستطيع القيام بأي شيء حيال مثل هكذا أهوال سوى انتظار نهاية موجة القلق السابلة... لا يمكن أن أرسم الآن لأن كل ما سأقوم به سيكون علي إعادته بعد هدوء العاصفة.. ينقصني الشغف والحماس والمشاعر الإيجابية، هذا كل ما في الأمر. الرسم قضية جوانية روحانية وحميمية جداً، لا يمكن اصطناعها وافتعالها أو الاحتيال عليها... صعب مولانا أن يشتغل المرء تحت هكذا إحساس حد الإكراه. أنت تعلم أن شغل الصّباغة هو شغل ذاتي جواني يقتضي هدوءا ونهجا روحانيا وفكريا مختلفا، كثيراَ ما يتوقف على الإحساس الجيد والمزاج القوي الرائق.

الأمر عميق ومختلف عن باقي الأنشطة اليدوية الأخرى. دعني أوضح شيئاً هنا. ما وقع لن تسلم منه حتى الصباغة. ففي مثل هذه الصدمات الإنسانية والتاريخية الكبرى المتسمة بالخوف والهلع الكبيرين، تكون جد ثقيلة على الرسام، وهو ما يتطلب منه مساحة زمنية كبرى كي يستوعب ما حدث. لذلك، لا أعتقد أن بإمكانه تجاوز هكذا قلق بشكل سريع، لا يخضع الرسم لقانون البهافيورية، الذي تتحكم فيه قطبية الإثارة والاستجابة، الرسم ليس فعل وردة فعل.

الرسام شخص مرتبك وشكاك وقلق على الدوام. الصباغة تحتاج ذلك، كما أن الألم صديق الصّباغة والرسم، لذلك، أحاول أن ألا يحول شيء بيني وبين ذلك.

لم أتوقف يوماً عن فعل الرسم أو التفكير في أمره. حتى عندما لا أرسم، فأنا أقوم بذلك في خاطري هكاذا أقول دوما ، صورة واحدة.. مشهد واحد أو موضوع معزول يكفي الرسام بل قد يكلفه حياته كلها، فما بالك بجائحة  تكاد تقتلعه من جدوره. بالنسبه للحجر او العزلة، دائمًا ما كان للرسام ميل للعزلة والحجرلأنهما مناسبين له اذا كانا اختياريا طبعاً ، لكن الرسم في ظل هذه الجائحة وكل التطورات المتسارعة الآن غير ممكن، لا يمكن أن ترسم وتكتشف شيء كما قلت وسط العاصفة وتحت هذا الضجيج والسخب، الرسم مثل الشعر يحتاج السكون والانصات ، إنه طقس خاص كله تأمل وصمت وعزلة.

أنا أعمل قليلا داخل المرسم، وأخصص وقتا للقراءة ولسماع الجاز. لقد صرت، في الآونة الأخيرة، أحلم باللوحات فقط. يتعافى الرسام بالصباغة أو بمشاهدة الصّباغة الجيدة. لا أستعجل لحظة الإنجاز، بل أتركها تأتي إلي من تلقاء نفسها دون أي عناء. ومع ذلك، يبقى الصّباغة التي في رأسي أحلى بكثير من التي تكون أمامي على القماش.