(placeholder)

archive

ILA MAGAZINE

Website Building Application

في محبة العقل والجَمال

عزيز أزغاي

على الرغم من الإنجازات الهائلة التي حققها الإنسان منذ وجوده الأول على هذه الأرض، وهي الإنجازات التي بلغت مداها العلمي خلال القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، إلا أن ذلك لم يشفع له، حتى الآن، في تجاوز الإيمان المطلق بما يقع على هامش إعمال العقل، سواء في التفكير أو في الممارسة. هذا الحنين إلى الالتباس والغموض وإلى تفسير الواقع الملموس بما يرتفع عليه، أخذ منحى أكثر راديكالية، من خلال عودة العقل الديني إلى التأثير في صناعة الحاضر واقتراح بدائل للمستقبل، الأمر الذي يمكن اعتباره لحظة انتكاسة للعقل والمنطق وللمادة. ولعل ما وقع خلال السنوات القليلة الماضية في منطقة الشرق العربي، مع عودة إلى إحياء نزعة التطرف الديني ممثلا في تنظيم داعش وما شابهه، يبقى خير دليل على هذه العودة النشطة إلى عماء الفكر.

وإذا كان التحليل البسيط للأحداث والوقائع يؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أن هذه العدوة المحمومة إلى الوراء قد هُنْدِستْ في ليلٍ، ومن قبل قوى خارجية سخرت مكر عقلها السياسي الحديث من أجل إعادة ترتيب خارطة العالم، فإن ذلك لا ينفي، في المقابل، استمرار هذه الثنائية، عقل / تفكير غيبي، في التأسيس لكل ما ينتجه الإنسان، إن في الفكر والإبداع، أو مجرد التأمل المحايد في تفاصيل العالم وفي مصائر باقي المخلوقات. ولعل هذا الأمر هو ما يؤكد أن هذه الازدواجية ليست حكرا على أمة دون أخرى، أو حضارة بعينها أو شعب دون سواه، وإنما هي علامة فارقة على طبيعة الكائن البشري، في الماضي كما في الوقت الراهن.

بهذا المعنى، قد لا نستطيع الحديث، بإطلاق وبوثوقية، عن وجود عقل خالص، حديث ومكتسح، بقدر ما هناك هيمنة نسبية لعقل معين مع وجود نقيض له في نفس الوقت؛ ليس فقط بين شعوب وأمم مختلفة، وإنما أيضا بالنسبة للشعب الواحد، مهما ارتفع مؤشر تطوره وإيمانه بالعقل. الجميع يتذكر، على سبيل المثال لا الحصر، طبيعة تلك الخطابات السياسية المشبعة بالفكر الديني اللاهوتي، التي كان يوجهها جورج بوش الابن للشعب الأمريكي ولباقي شعوب العالم الغربي المتحضر، لتبرير قرار اجتثاث الحضارة العراقية، التي كان يعتبرها عدوة من الدرجة الأولى. لقد انتهى الأمر في الأخير إلى اعتبار ذلك مجرد حيلة سياسية سمجة انطلت على عقل العالم المتحضر؛ بمعنى أننا كنا، والحالة هاته، أمام لحظة فشل ذريع لمسوغ إعمال العقل وقيمه الإنسانية النبيلة، مقابل انتصار بل هيمنة الفكر والخطاب الدينيين الغيبين على تواتر الوقائع وتطور الأحداث.

على أن عدم القبول بهذه الثنائية المطلقة في المجال الثقافي وفي حقل التفكير العلمي قد تجد لها مسوغا في سيرورة وفي دينامية الفعل الإبداعي، وفي الفن التشكيلي تحديدا، باعتباره مجال يخاطب المناطق الغامضة في تركيبة الإنسان، أي استثمار مطلق في الحلم، بالشكل الذي يجعله قرينة تفوق حدود الخيال. إن التشكيل، بهذا المعنى، لحظة استراحة من أثقال العقل ومن انضباطه الصارم لسؤال المعنى، كيما يستطيع الإنسان الحفاظ على تلك المنطقة الرمادية، غير اللاهوتية، التي تصله بالواقع، بعلاته وتناقضاته المرة وهيمنته التي تجرد الروح. ولعل هذا الطموح هو ما جعل التشكيل، على غرار الموسيقى، يحوز " أفضلية كبيرة، لكونه يقول كل شيء دون ذكر أي شيء ".

هذا الانجذاب نحو الضفة الأخرى للعقل، بما هو إقامة واعية وناضجة في الشيء ونقيضه، هو ما سبق للمعلم بول كلي أن أومأ إليه حين اعتبر " الفن يَعْبُرُ الأشياء الملموسة، إنه يقود إلى ما وراء الواقع أكثر من الخيال "، وهو نفس الطموح الذي عبر عنه بيكاسو ذات تأمل، حين ذهب إلى تفسير طبيعة الحدود الفاصلة بين الإبداع " الأصيل " الذي يعتمد على سجية الخيال، والإبداع المصطنع، الذي ينحاز إلى إملاءات العقل واشتراطاته، وعلاقتهما بذات المبدع. حيث اعتبر أن " اليد تقوم بكل شيء بدون تدخل من العقل ". وهو كذلك نفس ما عبر عبه أنغر بصيغة أخرى من خلال قوله " إن الفنان الذي يعتمد على بوصلة يستند على شبح ".

ربما كان في الوعي بهذا الفعل المركب والخطير - الذي يراوح بين الإيمان بضرورة العقل وقيمته الإنسانية والحضارية من جهة، والسعي، بنفس درجة الإيمان، نحو التأسيس لفعل إبداعي فني خلاق يستثمر في أراضي الحلم والخيال من جهة ثانية - ما يؤكد على تلك الاستمرارية المتجددة والمجددة التي وعاها كبار الفنانين، عبر مختلف فترات تاريخ الفن في العالم، وهم يُجِهدون أنفسهم من أجل استدعاء متاع الآخرين، قبل التفكير في إعادة النظر في هذه التركة الفنية الإنسانية العظيمة، بتجاوز أعطابها، وإضافة ما بدا لهم قيمة مضافة تصل السابق باللاحق، وفق تصورات فنية جديدة تمليها الذائقة الجمالية الخاصة، كما تفرضها متغيرات العصور والأزمنة والخصوصيات الحضارية والتاريخية.

بهذا المعنى، لا أحد يستطيع أن يزعم الانطلاق من " بداية جديدة " أو ممارسة طهرانية جسورة " تنطلق من الصفر ". كل ما نقوم به لا يعدو أن يكون تمرينا يوميا قاسيا على إضافة مجرد إيماءة فنية إلى تاريخ من الإيماءات والإشارات والرؤى الخلاقة التي كرسها أسلافنا من فناني البشرية. بعض هذه الإيماءات ( بعضها فقط ) هو ما يخلق الانعطافات التاريخية الكبرى، التي تساهم في تغيير أدوات التفكير، كما أنها تمرن الحواس والأذواق على طُرُقِ استقبالٍ وتَمَثل جديدين، بما يُثَمن افتراض البناء على ما وجد سلفا. جميعنا يتذكر ذلك الاستثمار الذكي للفن البدائي، خاصة القناع الإفريقي والمصري الفرعوني، والمنحوتات الأوقيانوسية والإيبيرية، التي أنقذت التصوير الغربي الحديث، في مطلع القرن العشرين، من لحظة احتباسه الكبرى، وكيف استطاع فنانو هذه المرحلة، خاصة جماعة مون مارت الباريسية، تجاوز قرون من الإملاءات الفنية الأكاديمية لإبداع ملامح أبجدية الفن الحديث في شقة التجريدي، الأمر الذي اعتبر فتحا مبينا لمسار الحداثة في الغرب وفي العالم.

على أن هذه الدينامية الغربية الحديثة، التي راهنت على تطوير الأساليب الفنية وتجديد الرؤى والأذواق الجمالية وتحديث الأفكار النظرية، يكاد يقابلها سكون مطبق واطمئنان كامل لمنطق القبيلة والمذاهب الدينية والهوية القومية في التفكير وفي الممارسة الفنية على المستوى العربي. ويرجع السبب في ذلك إلى خصوصية بنية العقل العربي نفسها، حيث مازال العرب لم يستسيغوا بعد انقضاء أجل تأثيرهم الحضاري، مع ظهور قوى جديدة غير عربية، أصبحت تحكم العالم. هذا الحنين المَرَضي إلى الماضي، أصبح يعيق ليس فقط تَكَيف العقل العربي مع دينامية الحاضر وما بات يفرضه من متغيرات ومستجدات فكرية وعلمية وحضارية، وإنما أيضا بات يمنعهم من إجراء مراجعة نقدية ذاتية شجاعة تضعهم وجها لوجه أمام واقعهم المتخلف المسكون بهاجس عظمة آفلة.

فنيا، يمكن اعتبار الأمر مختلفا بعض الشيء، بالنظر إلى التماهي الذي حصل للفنانين العرب، خلال القرن العشرين وإلى اليوم، مع ما تنتجه الذائقة الفنية الغربية، سواء من منطلق إعادة استنبات ما ينتجه الآخر وتكييفه مع الخصوصية العربية أحيانا، أو بالاستفادة منه والإبداع على منواله في أحايين أخرى كثيرة. على أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، في هذا السياق، هو ما السبيل إلى الخروج من هذه المنطقة الملتبسة؟ وكيف ينبغي التعامل بذكاء نقدي مع هذه اللحظة التاريخية المشوبة بغير قليل من الهوان؟

ما هو مطلوب، في اعتقادنا، هو ضرورة اقتناع العرب بأنهم باتوا يشكلون مجرد رقم صغير ( حتى لا نقول مجرد حطب ) في مطبخ صناعة المستقبل المنظور، إن على المستوى السياسي أو الاقتصادي، وبدرجة أقل على المستوى الفني. ومتى ترسخت هذه القناعة المؤلمة في الأذهان أمكنهم الانتقال، بعدها، إلى مرحلة استيعاب شروط حداثات العصر، التي لا تستقيم إلا بإجراء عدد من القطائع المعرفية اللازمة، وفي مقدمها:

1- القطع النهائي مع خيار الزج بالدين في ممارسة الحكم وتدبير الاختلاف،

2 - التسلح بالشجاعة الكافية للإجابة عن أسئلة الواقع بكل تجرد وموضوعية واستقلالية،

3 - صياغة بدائل مجتمعية واقعية تحترم ذكاء الإنسان العربي وتضمن حريته ومواطَنَته،

4 – تمثل الآخر / المختلف ليس باعتباره جحيما، وإنما قوة دفع مساعدة على تجاوز إخفاقات الذات وهناتها،

5 - وأخيرا وليس آخرا، تمْهير العقل العربي على تنسيب الحقائق، وتربية وجدان الأفراد وأذواقهم على محبة الجمال والانخراط في إشاعته بين الناس.

خلاصة القول، قد يعتبر قارئ هذه البدائل أنها غارقة في الرومانسية الحالمة، إلا أنها تبقى، مع ذلك، حلولا ممكنة لتجاوز كوابيس وخرافات ماضي وحاضر الإنسان العربي، الذي ما زال لم يحسم بعد في طبيعة العلاقة التي ينبغي لها أن تحكم تعاطيه مع أسئلة حاضر ومستقبل البشرية والعالم.  

شاعر وفنان من المغرب

العمل المرفق للفنان عزيز أزغاي