(placeholder)

archive

ILA MAGAZINE

Website Building Application

يوميات موحشة في معتزلات كورونا

محمد العامري

مصحة الصمت :

كنت دائما أتذمر من الضجيج، وأسميه التلوث السمعي، يشكل لي إحدى العذابات المجانية واليومية، أجغل من الضجيج والحشود معا، فروحي أقرب إلى برية ساكتة، لا تتحدث إلا همسا، في أيام الحجر الصحي انتبهت إلى الصمت الهائل في شوارع عمان، شوارع فارغة من الخطا، وهسيس أشجار تبحث عن سكّانها، شعرت أن الضجيج السابث يعاني من مرض ما، مرض الصمت، تصورت لو اني أجد مصحّة للصمت ربما ينطق بالخطا التي تيبست في البيوت، خطا تعطلت مفاصلها عن المشي، أقرب إلى أرجل دمى تحتاج من يحركها في مسرح البيت.

لم تعد تلك الأرجل ليّنة، تحتاج إلى زيت الرصيف، تحلم بالمشي على الماء تعاني من ربقة المساحات الصغيرة،

كانت خطاي تختنق كأنها غارقة في بركة صمت عميقة، انتبهت لضرورات الضجيج، لم ادرك أهميته إلا بمفارقات الصمت الجاف، الصمت القسري، الذي وقعت اقدامه في كل زاوية من المكان، توقف كل شي عن الحركة، ارتطام لعقرب الساعة بحجر في الطريق، صدأ الوقت وثقله في ظلال الاشجار، حرية القطط وتمغط مجموعة من الكلاب في الشارع، أصبح الشارع أقرب الى برية للحيوانات التي عانت طويلا من قسوة الإنسان.

أنظر بسعادة كبيرة رغم قسوة الوقت في الحجر الصحي إلى تلك الحيوانات التي تجول شوارع المدن المغلقة بحرية كبيرة، عشقت الماعز الجبلي الذي يمرح دون ذعر في شوارع "لاندودنو" أنظر إلى تلك القرون العظمية التي تزين راس الماعز وهي تبقر جسد الصمت في المدن الفارغة، وعجبت كيف لوباء قاس أن ينتصر للحيوان دون قصد، لقد تنفست الارض من ربقة أدخنة المصانع فاقتربت من بريتها الطازجة.

تمنيت أن أكون قطا بريا كي أتجول بحريتي في شوارع عمان، كنت أغبط تلك الكائنات الحرة حين أقبض عليها من نافذة بيتي في المدينة الرياضية وهي تتمختر بلا خوف او وجل.

كرهت الصمت وأصبحت أستدرج ضجيجا كنت انبذه بالأمس.


- تابوت أزرق:

صارت الكنبة الطويلة بلونها الازرق الذي يميل إلى دنة اللون الباذنجاني مكاني الخاص في البيت، بل صارت بيتي الذي أحب، حيث أقضي جل وقتي الممل على ظهرها منبطحا وأمامي مجموعة من الالوان المائية وأوراق الرسم، ودفتر لأي فكرة مفاجئة تداهمني، إلى جانب كل ذلك سجائري وكاس من الشاي، شعرت للحظة بأن الكنبة اقرب إلى تابوت ازرق يلم جسدي، حيث أقضي ساعات طوال وأنا أمتطي تلك الكنبة، احسها حمارا من القطن، أو صندوقا لعاجز يمارس التحديق في ساعة الحائط، صرت أشعر ببرودة الاشياء المحيطة بي، الدقائق ثقيلة تمشي في طواف غريب في جوف الساعة المستديرة، الظل يجف على الجدران، تضميد فيه كثير من التحايل لتفتيت الوقت، اي مساحة هذه التي تتحول غلى منزل مليء بالأسئلة الخائفة، أسئلة عن الايمان والموت والقدرات الكونية الخارقة الاقرب إلى خرافات الجدات، وجهت كل ذلك متحصنا بما قرات من كتب واسئلة فلسفية عن الطاقة والانسجام.

لكن زوجتي اصبحت تكثر من الصلوات فوجدتني في مساحة للعبادة فلم يعد المنزل كما عرفته من قبل، سؤال لم اصرح به، لكنه يطحنني كصريك آلة صدئة.

لم اتحرك من تابوتي الازرق، فكان المكان الاكثر امانا بالنسبة لي، الكنبة الزرقاء ذات الملمس الطري، هي وحدها حماري الذي يحملني للأحلام بعيدا عن الخوف الذي يحيط بي من كل جانب.


- ظلال تجف على الحائط:

وقت يكتنفه الوقت، مستطيل الشاشة التي تبث بينات الموتى في فيروس كورونا، تصريحات ترامب، مؤتمرات صحافية عن بيانات الوباء في المحافظات الأردنية، لقاءات الخبراء على شاشة الجزيرة، جغرافيا الفيس بوك التي تحولت إلى مصحات للعلاج واقتراحات هائلة للاعشاب الطبية، الاعشاب التي كانت تجففها جدتي على قماشة ملونة في مصطبة الدار، صيدليات متنقلة ونفايات كثيرة من الكلام.

صامت أمام وباء القول، ومتحفظ كذلك، رجعت بذاكرتي ألى رواية الطاعون لالبير كاميه التي صدرت في العام 1947 من القرن الفارط، والتي تروي قصة عاملين في المجال الطبي يتآزرون في عملهم زمن الطاعون بمدينة وهران الجزائرية. استرجعت احداث الرواية التي تطرح أسئلة حول ماهية القدر والوضعية الإنسانية. الى جانب الطبقات الاجتماعية المختلفة التي تطرحها الرواية من طبقة الاطباء إلى الطلوبين للعدالة، بكون الوباء وقع على الطبقة المسحوقة، لربما اجد جوابا تاريخانيا على كل هذا الهذيات، تذكرت مباشرة الإفراج عن السجناء في مركزالسواقة، حيث يصبح الوباء عدلا لهؤلاء ولو بشكل واهم.

الشاشة لم تتوقف عن بث الخوف في جوف المنزل، العائلة كلها عبارة عن كومة من الخوف تتكوم على الكنبات، ردم هائل بين المعرفة والفكرة الغيبية، أرى ظلي وقد جف على الحائط حيث بدا يابسا لا حراك فيه.

أوقات مشفوعة بالشكوك، مدينة خانت المشاة، لتراكم معتزلاتنا بدكانة الواقع حتى في سرير النوم والاحلام، فربما توفر لي رواية البير كاميه جزء من العزاء لهذا العالم، كل شيء يتوقف فجأة عند سماع خبر يؤثث مضمونه جلستنا بالموتى وازدياد أعدادهم في كل لحظة.

الخوف يتسارع ويسيح في زوايا البيت مثل ماسورة ماء مثقوبة، كنت ارمم كل هذا البؤس بالذهاب إلى المطبخ لاعبث بالأواني كي تمدني بصوتها المعدني من باب كسر فكرة الصمت، أصنع قهوتي وأعود لسجائري التي بدت كجثث بيضاء في المنفضة.

صار الوقت أكثر رمادية من رماد سجائري، حيث لا وضوح في صفات هذا الفايروس، ولا افق في العثور على الترياق، مرة أخرى، يقترب الخوف مني ليصبح لصيقا بي، لا شيء في خارج المعتزل سوى نواح كلب هجرته المدينة، نواح أقرب إلى إستغاثات ذئب في إبط الجبل، محاولات دؤوبة للتملص من السام الجارح،  محاولا تفكيك شيفرة السأم طامحا بانتصار وهمي، كما لو أنني مربوط بصخرة صلدة لا فكاك منها،  مكابدات لا تنتهي من ضاغطات الوقت والنشرة الإخبارية التي تنز موتا في كل لحظة، كانني أمام طريق مخاتل لا نهاية له.

أعبث في كل تفاصيل المنزل محاولا تغير مواقع الاشياء لكنها تبدو ثابتة تماما كجسدي الممدد على الكنبة الزرقاء.

يبدو أن ماكينة الاشياء قد تعطلت، حيث لا عثور على ما نبحث عنه في سكوت الوقت وقسوته المناكفة لوجودك.

أنا أنت أيها الظل الذي جف على الجدران لا ضوء يحركني في ردوم القبو.


- وحدتي الفتّاكة:

اليوم ما بعد منتصف الليل تحديدا الساعة الثالثة والنص صباحا، أدرك في وحدتي العودة المظفرة لبشاعة العالم، عودة متخفية في تيجان كورونا الأقرب إلى زهرة الخرفيش، فالشكل الكوروني كما ظهر في عدسات المايكروسكوب يذكرني بوردة نبتت على كومة من النفايات، لقد كان حقيقيا لوتريامين في أناشيدة عندما مجّد القبح، وجعل منه رسالة كونية تغريك في التفاعل مع أناشيده المالدورية" اناشيد مالدورو" شعرت بقشعريرة حين تأملت ذلك الشكل الكوروني الجميل وقوة بشاعته وفتكه غير المسبوق في العالم.

كانت وحدتي أبشع من لوتريامين وتوصيفاته الدقيقة للقبح، كدت أبكي من هشاشة الكون الذي نعيش فيه، فالقوة المفرطة للوباء أعادت الأرض كلها إلى الشجرة وما جاورها من أعشاب خشنة وناعمة، أدركت حقيقة اغتراب أرضنا عنا، فقد عبثنا بها بجهالة لا توصف، فقد صنعنا جائحة لشدة طمعنا بامتلاك الاشياء، احتضار رمادي لكل شيء تقع عليه عينك، خشونة النوم، وكوابيس حمراء تحرق حلمك، نهايات غير مؤكدة.

اندثار خطا كانت بالامس تحرث شوارع المدينة، وحدي الآن تردمني الاسئلة في جوف الفكرة، مسارات وعلائق ساكتة، ريبة من شارع نسي سكانه، أي فجر هذا الذي لم أسمع فيه سوى هسيس لجرة خجولة في فجرها الداكن.

مصائر ورزنامة فقدت أعصابها من بطء الأرقام والتواريخ التي تنز موتا، لم ترمم وحدتي سوى مجموعة من اللوحات التي تزين حائط الغرفة، كانت ألوانها تشع بالحياة، تناكف الموت وتبث طاقة لونية وموسيقية هائلة، تؤنسني تلك الأعمال، حيث يكاد الحصان أن يخرج من الإطار ليقودني إلى فراغ حر، المرأة التي رسمتها قبل عشرين عاما كانت على وشك النهوض،  كل شيء من حولي باردا، فلم يعد كأس الشاي يجد مبررات الدفء في تلك الوحشة الغاشمة.

فالمزهرية في الركن القريب من مكتبتي فقدت مشمومها وصارت محض بتلات ذابلة وكاسدة، مثخنا بصمت ثقيل، لا لسان لهذا الفجر الغامق.

خيبات تتوالد بتسارع عجيب، غرق بلا بحر، وجروح بيضاء لا دم فيها.

أمضي وحدي إلى التائهات، لم أجد ثقبا واحدا كي أمرر فيه بعض بكائي، لكني بقيت أمكث في الكرس أمرجع أقدامي في كل التجاهات، تماما كهذا العالم الذي يتمرجح في وبائه المستجد.


- كائن يحلم بالمشي :

في المعتزل كنت دائم المحاولة في تخيل الركض وإطلاق أرجلي في الفراغ، لم أتخيل هذا الامر من قبل لكنه هجم عليّ جراء المعتزل القسري، فهي تهيؤات سجين يحلم الرصيف والضوء، يبدو لي أن طبيعة الفعل الآني والمتكرر للجسد تنتج رغبات لم يعتد عليها جسدك من قبل، هي غريزة كامنة حين تنقصك تواجهك وتطالبك بتلبية تلك الرغبات.

نعم أحلم بالرصيف

أحلم بالمشي والقفز كقط بريّ

أحلم بهواء غير معلب

أحلم بشمس خفيفة تضرب وجهي،

فقد حاصرتني الجدران بظلالها الباردة، أصابتني بقشعريرة الموت، وهذيان الخروج، كما لو انني في خزّان اسمنتي شديد البياض، لا تعرجات فيه، جدران استاتيكية صامتة، لا شيء سوى روائح الأطعمة التي تتسلل إليك من باب المطبخ، حيث أصبح الطعام مساعة لوظائف المعدة، ومحركات معوية كسولة تشبة تجمد أرجلك على الكنية.

رسمت تخطيطا سورياليا لرجل مكبل الاقدام، رجل يحلم بالرصيف هو أنا بهيئة أخرى.

سائرا في وسط البيت، أحك الجدران لعلها تتحرك، كتفي يرتطم بخزانتة لا داعي لها، حيث انتهت مهمة الملابس، لا خروج، أجلس أيها الحالم بالمشي، فقد خسرت ديمقراطية الجسد، جسدي حبيس الفكرة، وسط نفس البيت ونفس الأحداث الفاقدة للدهشة، كأنني أحاول بين لحظة وأخرى استرجاع ذاكرة الاقدام، فقد فقدت أقدامي ذاكرتها وأصيبت "بكوما" مرشومة بالثئاليل.

كوفيد وضعنا امام مرآة الأعمار الموحشة، فصرنا بمثابة أزرار إلكترونية نبني وهما افتراضيا للجيران والأحبة.

نستقبل يوميا مئات من باقات الورد إلكترونيا، باقات بلا رائحة أو ملمس، ما زلت احلم بالرصيف، أتغزل بجماله عبر زجاج النافذة التي تطل على وجهه الشحوبي.

رصيف خال من اقدامي، وتحولات ظلي على منعرجاته، طافح بالوحشة والريبة المشفرة،  لم يهرش جسده المشاة والعشاق منذ زمن ليس بقليل.


فالحظر كمائن للأقدام، طمائن لعاشقين اشتاقا للقاء اليد باليد، لم ندرك من قبل ضرورات ملمس اليد إلا حين غادرتها المصافحة، كل شيء تعطلت وظيفته،

انفاسك المكممة،

يدك التي تصحرت من نأي المصافحة،

أقدامك التي نسيت القفز،

ليلك نهارك ونهارك ليلك،

ظلك الذي غاب في ظلال بيتك،

ذقنك الذي إمتلأ بهشير الشعر،

صوتك الخفيض،

كل شيء تعطل حتى أحلامك.


-  انتفاءات الألفة:

لم يكن بمقدوري أن آلف فراغ المدينة من سكانها، وحشة العمائر وخفوت الأضواء التي بدت كسراج مريض لا زيت فيه، الستائر التي تشف عن كائنات بطيئة، أصوات شرسة تخرج هنا وهناك، أصوات تحاول أن تخرج من فوهة البيت، صوت تلفاز الجيران، وانتصارات متتالية للمطبخ حيث أصبح شرفة للروائح، أصص الورد على الشبابيك وهي تطل على فراغ الأرصفة، تقطعات موجعة لفضاء يابس، عودة مظفرة للوحشة، حيث ينتابني شعور لو أملك يدا طويلة جدا لأصافح بها النافذة المقابلة، يدي التي تحاول أن تكنس نفايات القول عن الجائحة، فقد جعلوا منها جوائح متشعبة كشجرة شيطانية تصطادك في كل لحظة.

كانت غحدى أمنياتي الملحة أن يمر يوما بلا تذكرات الجائحة، لكنها حاضرة في تفاصيل رزنامتك، في لهاثك وطعامك، قيامة قامت كهجيج قطعان الإبل المذعورة، كرة مليئة بالتيجان تتدحرج في كل اتجاه، لعبة جديدة لكرة التيجان.

فالافعال المشفرة في يومنا الاعتيادي لم تعد هي، تغيرت نحو مسارات ومعان وأرقام بدلالات جديدة، كنا ننسج يومنا بصاباحات القهوة وبعض من قتات الضحك هنا وهناك، اما الىن نتحرك بممرات عابقة بروئح المعقمات، حيث تحول البيت غلى مشفى، نعاني من ذعر في لمس الاشياء، فبدت الأشياء باهتتة من نفي اللمس ونأي الملامس.

الأشاء رُدِمتْ بظلالها وتلاشت وغارت في ساحقات الوقت، فلم يعد هناك مساحة متاحة لردم جثتك بحضور احبابك، غريب في موتك ومتصحر في جنازتك كذلك، فلم تحظ في جنازتك إلا ببضع ظلال متفرقة على مدفنك، فقط تدفنك قبيلة من تراب ناعم ينسكب في حفرة احلامك.

تباعدوا فربما تمر الكرة التيجانية وتمس بنطالك في لحظة القفز، احذر تلك الكرة فقد تتكور بمرآتها في غيابك، تذكر فرادة موتك وخلو جنازتك من الجوح، أنت وحدك الآن لا أم لك سوى الأرض، كن حنونا في غيابك أيها المغادر.


الأعمال المرفقة للفنان محمد العامري