بويز : ضجيج أقل ، خيال صاف أكثر
حوار مع جوزيف بويز
ترجمة وتقديم عمار سلمان داود
لقد تسنى لي في زيارة لباريس في بداية العام 2008 إن أرى عمل بويز التنصيبي والمعنون بالعبارة الانجليزية (Plait) هذه الكلمة التي تعني ورطة او عهد او الارتباط بعهد، في مركز جان بومبيدو، وهو عمل يمكن مقارنته - من ناحية ارتقائه إلى مرتبة إيقونة تكشف عن روح زمنها - بعمل (في انتظار غودو) لصاموئيل بيكيت ففي هذا العمل الغير القابل للقراءة بالطريقة التقليدية، تخيب بالكامل أمالنا الجمالية المنمطة ولسوف يدعونا إلى تبني نمط بديل من التلقي يقوم على استقبال المعنى والطقس الجمالي ليس من ناحية كونه محجوبا بشكل بل باعتباره مفهوما ينتشر في فضاء المكان وتتشربه الأشياء بالكامل. هاهنا على المرء أن يتخلى عن عاداته القديمة في الاستقبال وان لا يبحث عن الشيء كدعوة للجمال أو كموضوعا جماليا بل الشيء باعتباره فكرة وقد تحولت إلى شيء وليس شيئا يعكس فكرة وبعبارة أوضح الشيء (لا يشير) إلى فكرة بل الشيء وقد (انطوى) على فكرة.
نشر الحوار في مجلة(باركيت) العدد 7 – عام 1986، وتم تسجيله في لندن، بعد إضرابات عمال المناجم بوقت قصير مابين عامي 84-1985، وهو السبب في وجود تصدي لموضوع العمال في نص الحوار، وفي نفس الفترة كان معرض بويز الشخصي المسمى (Plait) مستمراً في صالة العرض الانكليزية (انتوني دوفي غالري).
أنجز الحوار الناقد الفني Stuart Morgan وهو صحفي انكليزي يكتب عن الفن في العديد من المنشورات والكراريس المختصة بالفن، عمل في تنظيم الكثير من المعارض الفنية المهمة. وقد قمت بمحاولة ترجمة الحوار من النص البولندي وليس الانكليزي، وبهذا المعنى تكون ترجمتي من نص يتوسط لغتين وهذا أمر غير هين اعترف به مسبقا واعتذر ان كانت هناك أخطاء.
نص الحوار:
مورغان: أحقا، إن في عملك المسمى (يوليسيس) توجد رسومات لها علاقة مع عملك التنصيبي المعروض ألان لغرفة مغطاة باللباد؟ (اللباد هنا هو ألياف مضغوطة من الصوف)
بويز: نعم هذا صحيح، وقد بدأت باستعمال اللباد في الخمسينات والستينات في مجسمات صغيرة، أما الأحجام الكبيرة منها فقد ظهرت مابين الأعوام 1962-1964، ومشاريعي حول عمل منحوتات من اللباد مركبة على جدران صالة العرض تعود إلى الأعوام مابين 1968- 1969
- لماذا اخترت يوليسيس كنقطة انطلاق؟
- لم أختر ذلك بنفسي. لقد كان هذا نتيجة توصية من (جيمس جويس) بان أوسع روايته إلى ستة أجزاء. وقد فعلت ذلك.
- هل لعملك الجديد والمسمى (Plait) علاقة مع وضعك الشخصي؟
لا، كلمة (Plait) لها قطبان متعارضان في المعنى. احدهما سلبي والآخر إيجابي. فهي من جهة تعني موقفاً صعباً أو ورطة. ومن الجهة الثانية فإنها تعني عهداً أو وعداً أو الارتباط بعهد.
- مابين..؟
- مابين الناس، أو مابين الناس والطبيعة، الناس والحيوانات، النبات، الأرض.
- لحد ألان لا أرى غير جدران مغطاة باللباد، بيانو، توجد عليه سبورة ومحراراً. ماذا سيتواجد عدا ذلك في صالة العرض؟
- لا شيء أكثر من ذلك، يمكن القول أن هذه الغرفة ليست مخصصة لشيء آخر غير العزف الموسيقي، ولكن لن يصدر منها أي صوت لنغمات.
- صالة موسيقى الصمت؟
- لا، بل صالة موسيقى، ولكن يسودها الصمت، ليس بسبب أنه لا يوجد من سيعزف فيها؛ بل أريد لها أن تكون بمثابة (تعبير عن الصمت) أو حتى العزلة، أو الانغلاق. لا وجود للصوت، ولا يصل إليها أي صوت من الخارج، أي أننا لا نسمع بسبب ذلك أي شيء بالمعنى (الفيزيائي) طبعا، وبالرغم من ذلك سيؤدي هذا إلى أن يظهر صوت روحي داخلي- لنسمي ذلك موسيقى الخيال- وبذلك سيستمد عملي (Plait) فاعليته التعبيرية من خلال ذلك التناقض.
- كلما قل ما يحدث حولنا، كلما تعمقنا بشكل أعمق في خيالنا.
- نعم، يمكن قول ذلك. ولكن كلما كان الضجيج اقل في الخارج، كلما كان ذلك كفيلاً بقسط اكبر من الخيال الصافي. أتحدث هنا عن الداخل الإنساني، وحول تطور قوة الإنسان الداخلية. ففي الخارج لا يوجد صوت، وهذه هي درجة الصفر التي تبدأ بالمرحلة الأولى للفهم التقليدي للصوت، للموسيقى، وللنحت، مرحلة يبدأ بعدها الاستيعاب الانتروبولوجي للفن.
- "الانتروبولوجي"؟
- إننا نعي غريزيا بأن تطور الفن، هو واحد من أهم الأشياء في العالم، لأنه يعكس واقعاً، تكون فيه الأسرار متواجدة في صيغة مركزة، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بالبشر. لهذا فأن توجه الفن نحو ما هو داخلي هو اقتراب من هذه المرحلة التي أسلفت في ذكرها.
لا تملك تقاليد اليوم أي سلطة على احد، كما حصل على سبيل المثال في الثقافة المصرية القديمة أو الرومانية أو حتى النهضوية. وعلى التقاليد اليوم أن تستحدث من الناس أنفسهم. أما الصفة الأكثر أهمية في التحديث فهي إلغاء هذه التقاليد لصالح المقاصد الفردية.
لهذا لا يوجد طراز واحد، كما حدث مثلا في المرحلة الباروكية أو الغوطية، حيث تم إقرار نظام مشترك.
يتم حاليا لكل وجود إنساني أن يطور ثقافته الخاصة.
هذا واضح جداً في التحديث، والناس الذين هم أكثر جذرية في إعلان مفاهيمه يحاولون إلغاء التقاليد.
الفن المعاصر هدام، ولكن هذا الهدم له معنى ايجابي – تحطيم التقاليد لكي ندفع بالأفكار والمفاهيم إلى الحرية. وهذا هو سبب ظهور التعبيرية التحويرية أو أفكار (موندريان) – إن الدعوات إلى الإلغاء الجذري للتقاليد في فن الرسم يعني، انه سوف يأتي الوقت الذي يتم فيه للناس أن يبدعوا العالم من جديد، النظام الاجتماعي سيخضع للتغيير والفن الذي سيعتمد هذا التحول سيشكل منظوراً تاريخيا مهماً. فحين كانت السلطة تعني القيادة الروحية، كما في مصر القديمة او اليونان، وبشكل جزئي أيضا في روما، كان كل شيء مقنناً من خلال الفكر الديني والروحي. كان كل شيء في الثقافة الرومانية مقيدا بالقانون. وحين ننظر إلى ثقافتنا الحالية بعمق فسوف نجد أن وصفها لن يتم إلا بواسطة المصطلحات الاقتصادية.
إن صيرورة القانون أو الظرف الاقتصادي التي تحدثت عنها النظريات الاشتراكية، تبدو أنها لا تتعدى أن تكون مجرد شعارات واهية.
القيادة الوحيدة هي القوة الثورية المستندة على الإبداع البشري، على الإدارة الذاتية، الحكم الذاتي والإدارة التحتية.
يعني هذا، إن الفن سيجعل يوماً ما من الديمقراطية، الحرية، والأخوة واقعاً معاشاً – وهذا هو نتيجة تجاربي من خلال سبل ومناهج الفن.
لهذا يجب تمحيص الفهم التقليدي للفن، بالشكل الذي يشمل العلاقة مع العمل الإنساني عموماً.
- ما هو دور الفن في النموذج الاجتماعي المحدد من قبلك؟
- بما أن عمل الفنان متضمن لفكرة الإبداع، فعليه إذن أن يعي بذلك ماهية هذه الفكرة. فأنا أريد لهذا الوعي أن يكون واضحاً. ليس كل الفنانين على قناعة بمفاهيمي. الأغلبية لا تزال تفهم الفن والرسم والنحت بأسلوب متعلق بنوعية الظروف المحيطة به هم يبحثون أيضا عن فكرة تحقيق فعالية تأثير كبيرة على المتلقي ويتأكدون إن كانوا قد توصلوا إلى ذلك أم لا. هذا مهم طبعاً، ولكن ليس هذا مقصد الفن. بالنسبة لي الفن يعني تغيير جوهري في التركيبة الاجتماعية.
- (مارسيل بروست) كانت له غرفة مغطاة بالفلين. أغلق على نفسه فيها لكي ينعزل عن المجتمع. هل لهذا علاقة ما مع غرفتك المغطاة باللباد؟
- أن واحدة من التداعيات، التي تهيئها الغرفة في (Plait)، هي العزلة. والثانية هي دفء المادة. العزلة عن المجتمع هي إيماءة لا تواصلية؛ فيها شيء من السلبية، شعور تشاؤمي، مثل ما هو في بعض أعمال (صاموئيل بيكيت).
الصفة الأخرى للباد هي حماية الناس من تأثير الظروف الخارجية السيئة. هو أيضاً عازل إيجابي.
يمكن أن نصنع منه الملابس أو الخيام، كما تفعل الشعوب المنغولية.
اللباد يحميهم من البرد، الريح والعالم الخارجي، وهو يحتوي على الكثير من الدفء. وتركيبه عضوي. وهذه الناحية الايجابية_ حماية الناس من الخطر _ هي المعنى المحوري الآخر لهذا العمل الفني. إن مفهوم الصالة الموسيقية بدون صوت يعني من الوهلة الأولى موقفا سلبيا كاملا، ولكني أريد مع ذلك أن أكرس هذا المعنى الذي سيصل بنا نحو أقصى الأزمة. وبعد تخطي هذه الأخيرة يخضع الكل إلى التحول والتغيير. فمن البديهي أن يكون المعنى الشمولي للفن متمركزا في التحول الجوهري للكيانات البشرية، بدء من معرفتهم الذاتية.
ومن خلال الثلاث مائة عام المنصرمة، أنقاد البشر إلى أقصى العقلانية في الثقافة، وفي المادية الفكرية التي تتناول الحياة والطبيعة. هذه الأحادية في الاتجاه داخل الثقافة تشكل خطراً كبيراً _ على الأقل بالنسبة لي _ الثقافة شيء رائع، وحتى أيضاً استعمال المفاهيم الرياضية، لست معارضاً لنجاحات المرحلة المادية، حتى أنني أعجب لها. يمكنني القول أيضاً أن القنبلة الذرية هي أعظم إبداعات التكنولوجيا، وقمة في تحليل القوانين الفيزيائية، الكيميائية.... الخ. وأن المرحلة المادية كانت ضرورية للتطور البشري. ولكن هذا النوع من المنهجية يعني المبالغة في تقييم الحكم العقلاني وبهذا ستموت الطبيعة كلياً ومن فيها من البشر، طبعا هذا في
حالة ألاستمرار في الالتزام بهذه الأحادية في المنهج على المدى الأبعد.
سيجلب الفن مفهوما أخراً للإبداع، لا يستند على الرغبة في الحذلقة أو البحث عن المسببات. ولهذا فسوف يتطلب مشاركة جميع الحواس _ وللكائنات البشرية منها الكثير _، الفنون المرئية تتعامل من الحواس والتوازن، السمع ودرجة الحرارة (أعتقد أن درجة الحرارة هي أهم عناصر النحت) كل هذا مهم، لأن من الممكن تعريفه حسب اصطلاحات النفس البشرية. ستتوحد كل الحواس، إلى الحد الذي نجعل فيه الإنسان والنحت كلاً واحداً. وبعبارة أخرى، هل يستند (الفهم) فقط على التفسير المنطقي؟ الذي يمكن ببساطة تأكيده وإذا كانت فحوى الفن متعلقة بذلك، أي بأن كل شيء قابل للاستيعاب، لكان كافيا تأكيد ذلك فحسب ولا داعي إذن لاستخدام اللباد والعظام، أو الطين، أو أي شيء أخر،وهي التي سوف تساعد في إبداع الأشكال.
على كل من المتلقي والمبدع أن يتحدوا، فحينها فقط يمكن جعل الحواس مدخلاً لهوياتهم. وسيبدأ الناس بإدراك أن الإبداع لن يكون فقط متعة أو قضاء لوقت فراغ، بل سيتضمن واحداً من أهم مستويات وجودهم، وأن هذه المستويات مختلفة، وستكون للتفكير هيكلية: الحذاقة فيه تحتل المستوى الأدنى، أما المستوى الأعلى فسيكون من نصيب الحدس والإلهام والتخيل، وبهذا ستتواجد إمكانيات كثيرة لارتقاء الفكر البشري. علينا أن نفطن لذلك، لأن مستقبل العالم يعتمد على عمل الإنسان. لا يوجد اله بعد الآن وهو الذي كان له أن يعتني بهم، لا يوجد خالق مهتم بالبيئة، مستقبل العالم سيعتمد على عمل الإنسان وعلى البشر أن يكتسبوا ملكات الله، عليهم أن ينحوا بهذا الاتجاه. روحانية الإنسان هي الواجب، الذي يتخطى النظام الاجتماعي. مشكلة عمال المناجم ليست مشكلة اجتماعية ولا يمكن حلها من خلال وصفات أيديولوجية تعود إلى العصر الماضي. يمكن هنا الاعتماد فقط على فكرة القرار الذاتي، الحكم الذاتي، الإبداع وإيجاد أماكن عمل جديدة، لأنه لا توجد أماكن عمل جديدة، وعلى المدى القريب ستختفي أماكن العمل التقليدي بشكل نهائي تقريباً، أما النضال من أجل توسيعها على أساس النظام القديم يعني ببساطة النضال من أجل اللاممكن.
- ما هي بعد ذلك الإجابة الحالية لعمال المناجم؟
- الإجابة المناسبة هي التضامن. مشاكل حزب العمل والاتحادات يمكن حلها فقط من خلال تجنب الاصطدام بحرية الاختيار الشخصي من المهم أن توجد اختلافات. ومن الممكن مناقشتها بلا نهاية بإقامة المؤتمرات بشكل مستمر. ولكن وقبل كل شيء سيكون التضامن ضروري جدا من أجل التحدث عن المشاكل الاجتماعية.
- هل يمكننا التحدث حول مكان عمل الفنان؟
- العمل الجماعي كان صفة من صفات عصر النهضة، (رافاييل) كان مثالاً جيداً لذلك، الكثير من أعماله قام بها الآخرون، أعتقد انه استخدم ثلاثمائة إنسان يعمل لديه بشكل دائم.
- هل تمتدح ذلك؟
- هذه مسألة نسبية، العمل المشترك مع الآخرين هو أمر ايجابي وهو مرتبط بمفهوم ذلك العمل ونتائجه. في
العهود القديمة لم يكن الإبداع نتيجة لعمل منفرد. الفنان المعاصر جاء بعنصر المشغل الفني. ولا يمكن عمل كل شيء بشكل انفرادي. نحتاج إلى القيادة والنصيحة. فأن قطع اللباد التي اتخذت (شكل نصف أعمدة) والمخصصة لعملي (Plait) قمنا بصناعتها في المعمل في مدينة (بافاري) ولأجل ذلك تم إيقاف إنتاج المعمل لمدة أسبوعين لتحقيق ما أوصيتهم به ولكن كل القرارات المتعلقة بكيفية إنتاجها قمت بنفسي بإصدارها بما في ذلك السمك، الشكل، الارتفاع، قابلية الانبعاج، النسب، ليونة أو صلابة المادة، اللون، الخياطة.... الخ. بكلمة مختصرة كانت هناك 40 من الخواص المختلفة!
يقودنا هذا إلى التعاون المشترك. ويبدو أيضاً أن (اندي ورهول) يفكر بشكل مشابه حول العلاقة مابين الفن ومكان العمل.
ـ يكون العمل المشترك الأمثل عندك بمدى خضوعه للقرارات الشخصية، على نفس الأساس يقوم (Plait) كمكان، حيث على الناس أن يكونوا وحيدين فيه، وبعد اختبار دواخلهم يعودون إلى المجتمع.
- نعم، يعودون مختلفين.
التنصيبيّة Installation art، ماذا تعني؟
إن التنصيبيات هي أنصاب مختلفة من حيث مادة صنعها، أبعادها، وأشكالها وهي مختلفة في وسائل وصولها إلى المتلقي وتعد من أجل إشغال فضاء محدد، أو مكان ما قد يكون متحفا أو صالة عرض، مما يؤدي إلى وضع المتلقي وسط العمل الفني. فالتنصيبية لايتم استقبالها من قبل المتلقي من الخارج كما يفعل المرء مع اللوحات او التماثيل، بل من خلال التواجد الفعلي داخلها. ولذلك فالتنصيبية تتصف عموما بالمكانية والزمانية، ويتم إشغالها بمجموعة من العناصر المختلفة التي تلتقي في تراكيب أو مقاربات معينة تفضي إلى توليد دلالة معينة يمكن للمتلقي أن يتخيلها من خلال اختباره لها.
ناقد وفنان من العراق / السويد
started 1 MAY 2010 email : info@ila-magazine.com
design: gitta pardoel logo: modhir ahmed © ila-magazine