ILA MAGAZINE

(placeholder)

archive

     يوميات موحشة في معتزلات كورونا          

     يوميات موحشة في معتزلات كورونا          

     يوميات موحشة في معتزلات كورونا          

الصوت والمكان

17-05-20

الصوت والمكان 
سيمون كوفيسي*
ترجمة صالح الرزوق


سامي هو أول من احتفل بصوت ونبرة غلاسكو المحلية من بين شخصيات جيمس كيلمان. فرواية “كم تأخر الزمن، كم تأخر” تقدم لنا حالة متطورة من حالات اكتشاف كيلمان للعلاقة بين المكان والصوت، وبين الموضع واللهجة، ثم الهوية والكلام. وبسبب عمى سامي، تستبدل حاسة البصر بشيء آخر، وهو الوعي المتطور بموضع الصوت، أو مكانية الأصوات وأحوالها. ومثل معظم أبطال كيلمان، لا يقترن سامي بأصوات غلاسكو وحدها، ولكن كانت له أذن موسيقية، ودائما هناك أغنية تعلو في رأسه، وفي معظم الأوقات يتذكر كلمات تساعد على التعزية والسلوان، ثم هو كاتب أغنيات شاب وموهوب. ووجدانه الموسيقي يدعمه هوس بموسيقا الريف الأمريكي وكتّاب الأغنيات الأفاقين و“الخارجين على القانون” والمغنين وعازفي البلوز أمثال ويلي نيلسون ووايلون جينينغز وكريس كريستوفيرسون وبوب ديلان وباتسي كلاين. وجدير بالذكر أن سامي يرفض ويعادي الروح ويعتبر أنها نمط من أنماط البروباغاندا (ص155). وهنا من الضروري الإشارة لقراءة يووي زاغراتيسكي** للرواية وما تتضمنه من مؤثرات بنيوية تدين فقط للبلوز الأفرو أمريكي. ولضرورات منطقية توجب على هذا التأويل أن يتجاهل ذوق سامي في الموسيقا. كان سامي بحاجة للموسيقا، وموسيقاه بشكل أساسي “بيضاء”، ولكن اللون لا يهم على الإطلاق بنظره، وهو أصلا لم يذكر أي شيء عن العرق. وكما حصل مع باتريك دويل في رواية كيلمان “النفور” كان سامي من أشد المنتقدين للغة العنصرية (انظر مثلا ص 345 من الرواية). وقد لاحظت سو فايس*** أن سامي كان منسجما سياسيا، وهناك تطابق بين الظاهر والباطن في كلامه عن موضوعات مثل المرأة والرجال المثليين والتمييز العنصري. ولكن علاقة ذوقه الموسيقي مع البلوز الأفرو أمريكي تكاد تكون معدومة. وفي الواقع إن “حزام سامي بنجمته الوحيدة” هو جواز سفره إلى مركز عالمه الموسيقي: تكساس. و“ولاية النجمة الوحيدة” هي عاصمة الجنوب، و“الجناح الغربي”. وهذا الأخير هو موضوع تفاصيل مطولة لرحلة موسيقية يقوم بها كاتب إسكوتلاندي آخر هو دانكان ماكلين. يتخيل سامي رحلة مماثلة يحج بها إلى لوكينباك في تكساس، وهو المكان الذي سجل به جيري جيف والكير ألبومه الشهير “فيفا تيرلينغوا” عام 1973 والذي يشكل جزءا لا يتجزأ من نشاط “موسيقا ريف العصاة – outlaw country”.


وقد عادت لوكينباك للظهور مجددا في موسيقا وايلون جينينغز وفي تسجيل انفرد به ويلي نيلسون وعنوانه “لوكينباك ، تكساس – العودة لأساسيات العشق” . لقد تأثر سامي بحب المجتمع الذكوري الذي تحرض عليه هذه الأغنية وتمنى لو “يكون مع فريق ويلي ووايلون وبقية الأولاد” ( كما ورد في ص 250). ومن الواضح أنه يقتبس هذه العبارة بشكل مباشر من الأغنية نفسها. ولكن من الطبيعي أن يعارض سامي ويقاوم في مكان آخر من الرواية هذه الرغبة الخيالية والعاطفية التي تشجع على رحلة حول العالم بشكل رحلة حج موسيقية. إنما هي تفرض نفسها مجددا وبعد حين. ومن المدهش أن كلمة “لوكينباك Luckenbach” تشبه لفظيا معنى “النظر إلى الخلف looking back ”، حينما يغنيها وايلون جينينغز. وكما آمل يمكن أن نرى أن ذهن سامي كان يرتحل عبر طبقات من الذكريات، وفي نفس الوقت يعمل على إعادة ترتيب نفسه في الوقت الحاضر بواسطة التركيز المتعمد على الصوت وأمكنة في الذاكرة. بمعنى أنه عليه أن “ينظر إلى الخلف” بذاكرته لأنه لا يستطيع عمليا أن ينظر “فيما حوله” ببصره بسبب العمى. وبالنسبة لكل ذكرياته المستعادة، وكشأن العديد من شخصيات كيلمان، كان اتجاه رحلة ذهن سامي نحو المستقبل وبعيدا عن غلاسكو. وإذا أسأنا اقتباس ووردزورث عمدا نقول: إن غلاسكو حاضرة فيه، الآن ولاحقا، وتقريبا “تأخر الوقت جدا” لإحداث أي تغيير. غير أنه يشعر أن التبديل لا بد منه. وبما أن سامي أعمى ولا يبصر أي شيء يوضح لون المغني والبلاد والبلوز فقد كانت بالنسبة له أشياء بأهمية واقع الطبقة العاملة، وكذلك بأهمية كلمات الأغاني والأصوات الذي يتذكر نصفها والتي تجدها بين أفكاره طوال الرواية، ولا سيما حينما يكون وحيدا. وبغياب المتطفلين غير الموثوق بهم (“ليس هناك ثقب امرأة يمكنك أن تثق به” كما يقول في الرواية ص 251)، وباستمرار استلاب صديقته هيلين واغترابها عنه، توفر الموسيقا لسامي محيطا اجتماعيا مفيدا، وتساعده على الإعراب عن أشكال معاناته المختلفة كلها. ويجد أرنون أ. فوكس، في دراسته عن موسيقا الريف وثقافة الطبقة العاملة في تكساس، أن “الصوت” هو كل شيء بالنسبة للطبقة العاملة هناك، فالصوت وسيط مفضل لبناء المعنى والهوية، ولإنتاج “ثقافة طبقة “مختلفة. وتتضمن الأغنية والغناء أطروحة تعبيرية توضح قيمة الصوت، وعليه إن الأغنية يمكن اعتبارها خطابا من خطابات عمل الوعي الخاص بـ “الصوت”. وعبر الأغنية وأشكالها المتوفرة في الكلام التعبيري والفني والنقدي والمسلي ( ولا سيما السردي والضاحك) تبني وتحتفظ الطبقة العاملة في تكساس مجموعة من القيم التي لحق بها الصدأ، و“الإجهاد”، ودخلت في دائرة ما هو “عادي” “وشائع” ويلون حياتها اليومية.

وهكذا إذا كانت مغامرة ورمنسيات الرحلة إلى تكساس وراء حدود وإمكانيات سامي، إن صوتيات مجتمع الطبقة العاملة، وألفاظ لغتها الموسيقية، تصبغ بألوانها النشاط المسموع لعالمه الجديد (ما يتضمنه من ألفاظ وكلام). وحينما تحتفل بـ “العادي” – وهو وجه أساسي من مشروع كيلمان ومنذ البداية – فهي أيضا تقدم شكلا من أشكال الزمالة لسامي. وهو ما يشجع على تأقلم الخطاب المسلي والعبثي مع الظروف الصعبة. بتعبير آخر، مع أن هذه الموسيقا تأتي من عالم متصدع، فهي تؤكد على هوية سامي الطبقية. وباتباع الخط الذي رسمه فوكس لنا، يمكننا القول بأمان أن هذا الأسلوب الخاص في الموسيقا يثمن عاليا أصالة الصوت، وكل الأصوات، وبالاستطراد صوت سامي، بينما كل الأصوات المذكورة تقريبا في الرواية تدين صوته ولغته. وإن الموسيقا الريفية، وهي في مركز عاطفته للموسيقا، تبدو متنمرة، وعليه هي تعاني من القيود في الإعلام الرسمي لأنها قد تهدد أمن الدولة في حال انتشارها: ومهما كانت حقيقة “الموسيقا المتمردة” وهي شكل من أشكال التحدي السياسي، إن تأويل سامي وفهمه للموضوع له معنى متغلغل في أعماقه، فالموسيقا بنظره ليست نشاطا جماليا دون أبعاد سياسية، وموسيقاه المفضلة إنما تعمق وتشرعن وضعه في الأطروحة المضادة ومقاصده المتمردة بصمت. لأنه إذا سمحنا لمزيد من البشر بالإصغاء إلى “موسيقا الكبار هذه” سوف “تندلع ثورة ملعونة” (كما ورد في الرواية . ص 156).

في بعض الأحيان كانت الموسيقا الصامتة تطفو على سطح النص، ولا سيما عندما يذكر سامي التفاصيل حول أصوات سمعها، وذلك بنبرة موسيقية صرف، يضيفها إلى نص الرواية بشكل قصائد مكتوبة ومغناة، و لنتذكر أنها من إبداعه الشخصي. مثلا يقول: يركع على ركبتيه ليشعر بملمس الأرض، إنها باردة لكن مستقرة، باردة لكن مستقرة. وكانت راحتا يديه ممدودتين عليها، ويغمره الإحساس أنه في مكان آخر من العالم وتبدأ الموسيقا تدمدم برأسه، موسيقا حقيقية جدا، وتنومه مغناطيسيا، وها هي أدوات العزف تقرع.. تممم تي تم تم تممم تتم تي تم ، تم، تي تم، تم، تم، تم، تي تم. تمم تي تم تي تم، تم تم تم تي بونغ، بونغ، بونغ، بونغ، بونغ، بونغ، بونغ، بونغ، بونغ. بونغ، بونغ، بونغ (الرواية ص ثم 31،11) . هنا نرى سامي على أرض زنزانته، وهو يلاحظ لأول مرة أنه أعمى. فيسرع لتحرير وضعه هذا عبر تجريدات موسيقا متخيلة. وهذه الموسيقا الصامتة، تتراجع فورا تحت تأثير طوفان الوجع والألم و“تصادم الأفكار دفعة واحدة” (ص 11). ولكنها على الأقل تخلق أثرا مؤقتا وسط ظروف سجنه وإحساسه بالشقاء. وترفعه هذه الظاهرة الموسيقية التي ترتقي لشكل قصيدة مغناة وترفعه لدقيقة من الوقت فوق ظرف زنزانته القاسية. لقد فقد سامي بصره، وفقد إدراكه باللون والظلام والنور والعمق والنسبة والتناسب، لكنه كسب أذنه، وبدأ يحلق بحاسة اللمس، ويعيد ترتيب ذاكرته ويضاعف من دورها الهام في حياته، وبالمثل ضاعف دور الإيقاع غير المنظور، أو حكايته غير المدونة. وبما أن سامي عاجز عن أي تواصل مع النص المكتوب، كان يتعايش مع نشاط منطوق ومسموع شديد النقاء وبعيد عن النخبوية والتعالي الثقافي. وبهذا المعنى، يكون سامي هو الذات المثالية لكيلمان: حيث الملفوظات والأصوات عند سامي الأعمى أكثر أهمية من الكتابة. وهنا المفارقة العجيبة، أن الصوت جاء ضمن صفحات أو في طيات رواية مطبوعة.



*سيمون كوفيسي Simon Kövesi أستاذ الأدب الإنكليزي واللغات الحديثة في جامعة أكسفورد بروكس / المملكة المتحدة. 

**.زاغاراتيسكي أستاذ الأدب الأنغلوفوني في جامعة جيشين البولندية.

*** أستاذة الأدب الحديث في جامعة شيفيلد البريطانية.

كاتب ومترجم من سوريا