المبدعة الرَّاحلة فاطمة بنت بركة أيقونة الموسيقى التنزانية
17-05-20
المبدعة الرَّاحلة فاطمة بنت بركة أيقونة الموسيقى التنزانية
ابراهيم الحَيْسن
منذ بواكيرها الفنية الأولى، داخل قوارب الصيد الخشبية وعلى جنبات المرافئ التي يعبرها الزائرون لجزيرة زنجبار، أو الجزيرة الخضراء الساحرة مسقط رأسها، أبدعت وتألقت الفنانة الموسيقية التنزانية الرَّاحلة فاطمة بنت بركة خميس المعروفة باسم "بي كيدودي" Bi Kidude، في مجال الطرب السواحيلي Swahili بعمقيه الإفريقي والعربي، وهي سليلة الفنانة الزنجبارية الرَّائدة ستّي بنت سعد إحدى رائدات الطرب الموسيقي في شرق أفريقيا. كانت تسعد بالزوار القادمين لسماعها وتستقبلهم بأغانٍ تخصيصية من أبرزها الأغنية المعنونة بـ Alaminadura..يُضاف إليها نخبة من الفنانين التنزانيين التقليديين والحداثيين، منهم مثالاً لا حصراً: سعيدة كارولي، ريمون شعبان مواكيوزا المعروف باسم "رايفاني"، هوكوي زاووس، إيمانويل ماكونو الملقب بـ"نهريل"، تاتو نانا، دولي سايكس، كول جيمس، بابي مادها، ناكايا سوماري، دانييل أوينو ميسياني، ريمي أونغالا، ميم سليمان..وغيرهم الفنانين والمجموعات الفنية التي عزفت على آلات موسيقية محلية وإفريقية كالليمبا، البيانو، الغيثار..إلى جانب استعمال الطبول، النواقيس، الخشاخيش، الأجراس..إلخ.
سبق للفنانة بي كيدودي أن غنَّت باللغة العربية مع فرقة مصرية منذ سنة 1930 إلى غاية سنة 1940 في دار السلام "شيكامو جاز"، عقب ذلك عادت إلى بلدها حيث شرعت في تعليم الفتيات الإيقاع الأفريقي ومبادئ غناء الطرب بعد تجربة غنية اتسمت بالاحتكاك والغناء إلى جانب كبار المطربين العرب في ذلك الوقت، يوجد في طليعتهم الرَّاحلان محمد عبد الوهاب وأم كلثوم. ومع منتصف التسعينات، شرعت في مزج الجاز بالطرب، مثلما قدَّمت موسيقى الدومباك في العشرينات وتفرَّدت بالمزج بين الغناء ودقِّ الطبول الضخمة وفق الأعراف الموسيقية التنزانية البديعة.
وطيلة مشوراها الفني الإنساني، وببنيتها النحيلة، غنَّت بي كيدودي بروحانيَّة فيَّاضة على إيقاعات موسيقى "الرومبا" المقتبسة من الفن الأمريكي ورقص "الأونياغو" بطقوسه الإيروسية التي تناهض الكبت والاستغلال الجنسي، كما أنها لم تغني من أجل التكسُّب ومدح الحاكمين، قدرما سخَّرت فنَّها لمناصرة الشعوب المقهورة في القارة الإفريقية، وبسبب ذلك تعرَّضت للقمع والاعتقال حيَّال مواقفها وقناعاتها الإبداعية.
رسمت الفنانة بي كيدودي حكاية كبيرة مع الشهرة داخل وخارج بلادها رغم أنها لم تكن تبحث عنها، وحوَّلت الحزن بصوتها الرخيم وأدائها الطقوسي Rituel المتميِّز إلى لحظات فرح جميلة وسط الجوعى والمرضى والفئات المعوزة والمحتاجين الذين عاشوا المآسي والخيبات..وكثيراً ما تعرَّضت لنظرات الاحتقار والازدراء والتقزُّز بسبب إدمانها التدخين واحتساء الكحول التي لازمتها إلى أن فارقت الحياة ذات مساء حزين أبكى الكثيرين من محبِّيها وعشاق فنها الذين تقاسمت معهم حياة درامية مليئة بالإبداع الجميل..
نالت هذه الفنانة الاستثنائية، التي كانت "تغني من القلب"، عدَّة ألقاب وجوائز فنية عن جدارة واستحقاق، منها مثالاً جائزة ووميكس Womex العالمية سنة 2005، لتأثيرها الكبير على الموسيقى والثقافة في تنزانيا
، كما حصلت على وسام الفنون والرياضة التنزاني سنة 2012، فضلاً عن جولاتها الفنية المتعدِّدة في شرق آسيا وأوروبا والشرق الأوسط.
وسيشاء القدر، أن ترحل الفنانة بي كيدودي سنة 2013 بعد انقطاعها اللاإرادي لعدَّة أشهر عن الغناء وقد حضر لتشييع جنازتها وتوديعها المئات من عشاقها يتقدَّمهم الرئيس التنزاني جكايا ميرشو كيكويتِ. كما بكى رحيلها الأطفال والنساء والفقراء من أبناء الطبقة المسحوقة الذين ساندتهم ودافعت عنهم طيلة حياتها، حيث تمَّ دفنها بقرية كيتومبا تاركة وراءها مساراً موسيقيّاً إنسانيّاً بديعاً جديراً بالحبِّ والتقدير..والاحترام أيضاً.
ناقد من المغرب