ILA MAGAZINE
عبد الله العتيبي حارس هشاشات الكائن
د. عزيز أزغاي
معرفتي الشخصية بالفنان التشكيلي العربي الكويتي عبد الله العتيبي لا يتجاوز عمرها السنة، وقد كان اللقاء في سمبوزيوم مدينة آزمور المغربية، في دورته الأخيرة ( 2016 )، حين جمعتنا ورشات العمل اليومي، والدردشات الجانبية في بهو الفندق الذي كنا ننزل به.
ما أثارني ساعتها في هذا الشاب الأسمر الهادئ والأنيق، هو حرصه الشديد على إعطاء كل اللحظات العابرة ذاكرة حميمية يمكن الرجوع إليها عند الضرورة، إن عبر التقاط صور للفنانين المشاركين، أو تسجيل فيديوهات لهم أثناء العمل، قبل أن يسحبني الفضول " للتجسس " على طريقة تحضيره لشغله التصويري.
أولى الملاحظات التي أثارت انتباهي في عمله الفني هي تلك الروح المتعففة والقنوعة في تعامله مع مساحة اللوحة وفضائها، وهي روح لها من الميل التفقيري، وليس الفقير، أكثر من سعيها نحو ملء كل البياض المتاح أمامه، ما اعتبرته معادلة واختيارا محفوفان بغير قليل من الصعوبات. إذ ليس المطلوب من الفنان - أي فنان - الانخراط في تلك الثرثرات اللونية والشكلية السهلة والمجانية قبل العثور، مصادفة، على تلك الجملة التشكيلية المرجوة، وإنما السعي، بذكاء وحذر شديدين نحو ما أعتبره إشراقة جمالية تعطي للعمل الفني معناه وتعكس فلسفته العميقة.
بهذا المعنى، أزعم أن العتيبي يذهب إلى الإبداع، بالشكل الذي يجعل الاشتغال على اللوحة مجرد لحظة إنجاز فقط، وهي مرحلة تكون قد سبقتها سيرورة من التفكير والتأمل ووضع خطط مدروسة سلفا. هذه الملاحظة تقودني إلى الحديث، ودون مجازفة، عن مشروع فني كثير من ملامحه واضحة في ذهن الفنان وفي وجدانه، حيث سبق للفنان أن تحدث عنه، في لقاءات سابقة، حين ألمح إلى موضوعة " الجسد الذي بلا روح "، أي تلك الكتلة البشرية الهلامية التي تظهر كأنها طيف بعيد لا يملك أي ملامح واضحة، أو مجرد سراب يجعلنا نحدس بأننا أمام فزاعة تخيف الفراغ.
إلا أن ما يعطي قوة تشكيلية لهذه الموضوعة الطريفة، هو لجوء الفنان العتيبي إلى تلك الطاقة التعبيرية الملتبسة، حيث يغيب التصريح المجاني المباشر بفكرة خفة الكائن وهشاشته وفراغه وتلاشيه، مقابل حضور سلطة الإيماء والإشارة والتلميح، وكلها آليات تعبيرية تترك هامشا كبيرا لعين المتلقي وذكائه كي يمارس سلطته التأويلية الخاصة في قراءة العمل الفني واستيعاب طموحه الجمالي والفني على طريقته.
من هذا الربع القاسي يستدعي الفنان عبد الله العتيبي شخوص لوحاته، التي يحرس على تقديمها في منطقة محايدة، هي منطقة الحضور والغياب، إنها مجرد كتل آدمية عزلاء، فارغة ومتشظية، يجللها الضوء، الذي يتماهي مع ظلاله. وقد تذهب بنا لعبة التأويل الماكرة إلى الحديث عن سعي الفنان نحو تعقب مصائر كائنات وجدت نفسها في هذه المنطقة البينية، بالمعنى الذي يحيل على ضياع الوجهة وغياب المآل. أوليس الإنسان، في نهاية المطاف، مجرد مشروع غياب كبير يعقب وجودا صغيرا في هذه الحياة الصغيرة؟
هذا الاختيار الصعب، الذي تعكسه موضوعة الهشاشة الإنسانية، يقوم الفنان العتيبي بتعميقه حين يلجأ إلى تلك اللعبة اللونية القاسية والصعبة، التي تكتفي بالقليل القليل، بما يجسده اختياره لثنائية لونية صريحة، يهيمن فيها اللونان الأسود والرمادي، مع إضافات جانبية قد تكون مجرد تخطيطات سريعة باللون الوردي أو الأزرق في معظم الأحيان. والنتيجة، أن العمل يصبح عبارة عن كتلة هلامية غامضة تستقر في وسط اللوحة أو في أسفلها، فيما بقية المساحة يعمد الفنان على إبقائها فارغة، بيضاء، تماما في الكفن!
الأكيد أن هذا الاختيار الجمالي يستضمر خبرات آباء فنيين سابقين عنه أو معاصرين له، سواء من داخل الكويت، أو من العالم العربي، أو من جغرافيات فنية كونية أخرى. كل هؤلاء يحاول الفنان عبد الله العتيبي تعقب آثارهم، بما يؤهله للاجتهاد في متنها، في أفق ترسيخ بصمته الفنية الخالصة. لذلك، قد يبدو الحكم على أفق هذه التجربة مسألة سابقة لأوانها، ما دام الفنان لا يكف عن التأكيد، في أكثر من مناسبة، على أنه مازال يجتهد، كتلميذ نجيب، في تجويد لمسته الفنية، دون مبالاة بإغراء الحظوة ولا بمحطة الوصول.
شاعر وفنان تشكيلي من المغرب
الأعمال المرفقة للفنان عبدالله العتيبي