ILA MAGAZINE
عن الفن والحرية والدين
عزيز أزغاي
على عكس كثير من الدول العربية، لم يتعرف المغاربة على الفن الحديث إلا في حدود مطلع القرن العشرين، وذلك بسبب اتصالهم المتأخر بالغرب عن طريق الحملات الاستعمارية التي قادتها كل من إنجلترا وفرنسا وإسبانيا في منطقة الشمال الإفريقي.
وإذا كانت مصر سباقة إلى هذا التماس مع الآخر الغربي، خاصة مع حملة نابوليون بونابارت في العام 1798، قبل خضوعها للانتداب البريطاني في العام 1882، وقبلها سقوط كل من الجزائر وتونس تحت الاحتلال الفرنسي في سنتي 1830 و1881 على التوالي، فإن المغرب سوف لن يوقع وثيقة الحماية مع الاستعمارين الفرنسي والإسباني إلا في حدود سنة 1912، حيث كان من نتائج هذه الحملات التوسعية الجديدة، بما جلبته من أفكار وتصورات ونظم عيش وحياة، انفتاح شعوب هذه الدول على أنماط إبداعية وفنية طارئة، لعل أهمهما ما كان قد وصل إليه الفن الحديث في الغرب الأوروبي، خاصة ما يعرف ب " فن الحامل ".
وسعيا منهما نحو ترسيخ تواجدهما فوق أراضي هذه المستعمرات الجديدة، بادرت القوتان الاستعماريتان الفرنسية والبريطانية إلى اتخاذ جملة من الإجراءات والقرارات الحاسمة ذات البعد الثقافي، لعل أهمها – في علاقة بمجال الفنون - إنشاء أكاديميات ومعاهد فنية عليا، خاصة في الجزائر ومصر وتونس، بخلفية تأطير وتوجيه نظرة وذوق شعوب هذه المستعمرات، بما ينسجم مع ثقافتها ويوسع من مجال تأثيرها على أرض الواقع.
على أن وضعية المغاربة، في علاقة بهذه الممارسة الإبداعية الجديدة، ظلت تشكل ما يشبه حالة الاستثناء، مقارنة مع ما تم التأسيس له في باقي دول الجوار. إذ بقيت ممارسة فن الرسم والتصوير الصباغي مثلا، خاضعة لنوع من التعاطي الهاوي الحر وفي حدود ضيقة ومحتشمة، دون أن يتجاوزه نحو التطبيع المدرسي / الدراسي، لا سيما في غياب مؤسسات أكاديمية ومعاهد فنية عليا تعنى بهذا النوع من التدريس الخاص.
لذلك، سوف لن تقدم السلطات الإسبانية على تأسيس ما يشبه مدرسة فنية خاصة موجهة للترفيه على مواطنيها المقيمين في المغرب، إلا في حدود سنة 1947 (مدرسة الفنون الجميلة في تطوان )، قبل أن تقدم فرنسا بدورها على فتح مشروع مماثل ولنفس الغاية في مدينة الدار البيضاء، وكان ذلك في سنة 1952.
وبسبب طبيعة عقلية النخبة المغربية التقليدية، وبالنظر كذلك إلى انتشار ذلك الإحساس الحذر والرافض لكل ما يمت للأجنبي بصلة، بدأت تطفو على السطح بعض الخطابات والسلوكات الشاذة، التي كانت تشي بغير قليل من التبرم بل والازدراء، ليس فقط لكل من كان يهوى ممارسة هذا النوع من الفن، ممن كان يعتبر نموذجا للعطالة والكسل، أي عالة على المجتمع، بل أيضا بالنسبة لفعل الرسم نفسه، خاصة التشخيصي منه، الذي اعتبر محرما، استنادا إلى أحاديث دينية متواترة، كان قد أشبعها التأويل حنقا ورفضا ليس لفن الرسم وحسب، ولكن لمختلف أنواع فنون الفرجة والأداء، مثل الرقص والغناء والطرب، وأيضا للآداب المكتوبة بغير اللغة العربية الفصيحة، أو تلك التي لا تخدم أي قضية دينية أو أخلاقية أو مجتمعية بحصر الموضوع.
ولعل هذا العداء المتطرف، الذي راكمته عقلية النخبة المغربية التقليدية، اتجاه مختلف الفنون، هو ما يفسر، على سبيل المثال لا الحصر، غياب نصب فنية لشخصيات تاريخية وسياسية وثقافية وأدبية في الساحات وفي الميادين العامة، على عكس ما هو شائع في كثير من الدول العربية وبخاصة دول الجوار. هذا العداء نفسه كرس، على صعيد آخر، تطبيعا مستسلما لهذا الفهم المتشدد وما أفرزه من غياب صارخ لنقاش مجتمعي يعيد النظر في مثل هذه المواقف التي لا تتساوق مع تطورات العصر.
نفس الآراء المتطرفة كانت قد شهدتها، ولو بشكل متفاوت، بعض الأقطار العربية في لحظات معينة من تاريخها الحديث، مما حذا ببعض الأصوات الفقهية المتنورة إلى الإدلاء برأيها في الموضوع، من خلال سعيها إلى تسليط الضوء على بعض مآزق بعض الخطابات الدينية المأزومة، وإن من باب إثارة الانتباه إلى ما يعتبر فهما منغلقا لمنطوق النص الديني، وتصريفا متعسفا على بعض أحكامه التي لم تعد مواكبة لإملاءات العصر ومتساوقة مع كثير من متطلباته.
ولعل ذلك ما حذا بالشيخ محمد عبده، مثلا، إلى استصدار ما يشبه الفتوى في الموضوع عنونها ب " الصور والتماثيل وفوائدها وحكمها " ، ومما جاء فيها أن " الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع، والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى – إن هذه الرسوم حفظت من أحوال الأشخاص من الشؤون المختلفة ومن أحوال الجامعات في المواقع المتنوعة، ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية " ، وقوله كذلك، في نفس الفتوى، " إن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل ".
نفس القناعة عبر عنها المفكر الإسلامي المصري محمد عمارة، حين اعتبر في كتابه " الإسلام وقضايا العصر "، ص: 43، قضية الفن التشكيلي " (...) واحدة من القضايا التي اتفق فيها المعادون للحضارة العربية الإسلامية مع قطاع كبير من الفقهاء وأنصاف المثقفين من الذين وقفوا عند ظاهر النصوص، والمدلول الحرفي والجامد للمأثورات "، حيث يرى أن القرآن أناط تصوير الأحياء " بالمقاصد والغايات والنتائج "، فإن كانت للشرك حرمها وإن كانت للحس الجمالي باتت مرغوبة.
أما في المغرب، فقد كان الخوض في مثل هذا النقاش، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين، يعتبر مغامرة حقيقية، في ظل وجود نخبة دينية تقليدية متشددة، ذهب بعض أفرادها إلى استصدار فتاوى غريبة من قبيل تحريم إدخال الكهرباء إلى المساجد ولباس الجوارب وطباعة القرآن وما شابه، في مقابل نخبة سلفية وطنية كانت تنتصر إلى اللغة العربية والسلف الصالح، قبل أن يفرز هذا الواقع الملتبس نخبة " حداثية " كانت، حتى سنوات الثمانينيات، تتبرم هي الأخرى من الحديث عن كل ما يمت للتراث الشعبي والدارجة المغربية بصلة، باعتبارهما فلكلورا جديدا يكرس التخلف المجتمعي والتبعية للغرب.
على أن مثل هذه الأجواء المتسمة بغير قليل من الانغلاق والتشدد لم تمنع الشاعر والأديب المغربي عبد الكريم بن ثابت (1917 – 1961)، من الإدلاء برأيه المختلف والجريء في الموضوع، خاصة ما يتصل منه بعلاقة الدين بالفن وعلاقة هذا الأخير بالحرية، وهو رأي مضيء سجله الشاعر، ضمن المواقف التي كان يعبر عنها كقناعات فكرية وثقافية، في عموده بمجلة " رسالة المغرب " الشهرية في أربعينيات القرن الماضي.
ويهمنا، في هذا السياق، الوقوف عند مقالين قصيرين عنونهما الكاتب، على التوالي، ب" الحرية والفن " ، و " الدين والفن " ، اللذين أثار فيهما وجهة نظره في الفن في ضوء اشتراطاته الطبيعية، التي يبقى مفهوم الحرية أحد أركانها الأساسية، ثم علاقة ذلك بالدين، في تجلياته وممارساته الصحيحة، لا في أبعاده التأويلية المتعصبة ولا في تمثلاته المغرقة في الدجل والخرافات والوهم.
وفي ذلك، ذهب الكاتب إلى اعتبار الحرية " من المقدسات بالنسبة للإنسان العادي، لكنها تعتبر، بالنسبة للفنان، أقدس هذه المقدسات وأولاها بالحب والإجلال وأجدرها بالتضحية ". إذ لا يمكن للفرد، وليس الفنان فحسب، أن يعمل وينتج ما يعطي معنى لحياته ويزكي وجوده الإنساني في غياب شرط الحرية. من هنا كان لغياب هذا الشرط الوجودي، لدى أمم كثيرة، أثره الواضح في عدم ازهار الفن، بسبب " كثرة الرقباء والنصحاء، ممن جعلوا الفن نوعا من الشعوذة والفنانين قوما من المجانين ".
أما عن اتصال " الدين بالفن " فقد اعتبرها الكاتب علاقة تماه تلتقي فيها المشاعر النبيلة الراقية والسامية. فالفن، بهذا المعنى، له نفس التأثير الذي يحدثه الدين الصحيح، الذي يستمد قبسه من مشكاة علوية واحدة. في حين يهبط الدين الخرافي بالفن إلى مستوى هزيل ضئيل وحيواني في أغلب الأحيان. لذلك، أبدى الكاتب خشيته من أن تخلط مهمة الدين بمهمة الفن ويتحول، بذلك، إلى مجرد واعظ مرشد، والحال أن مهمة الفنان ينبغي أن تحبب للإنسان الحياة وأن يكون مؤثرا في استنهاض أحاسيسه وشعوره بما يجعل ذهنه متوقدا وعقليته متنورة تسعى إلى التماهي مع المثل الإنسانية العليا.
ولكل غاية مفيدة، نورد، فيما يلي، نص المقالين اللذين للكاتب عبد الكريم بن ثابت، واللذين صدرا في كتاب " نصوص من الثقافة المغربية الحديثة " ضمن منشورات توبقال، في سنة 2008.
الحرية والفن
مثل الحرية للفن كمثل الروح للجسد والنور للحياة والشعور للبصيرة والمطر للأرض المجدبة والعبق والشذى الفواح للزهور والرياحين.
إن الحرية من المقدسات بالنسبة للإنسان العادي ولكنها بالنسبة للفنان أقدس هذه المقدسات وأولاها بالحب والإجلال وأجدرها بالتضحية، وتاريخكم الإنساني حافل بمواقف اختار فيها الفنانون الموت دفاعا عن الحرية العامة، أي حرية الشعب فما بالك بحريتهم الخاصة التي هي روح يستمدون منها الحياة والوجود وتمكنهم من أداء واجبهم الإنساني في العمل والإنتاج.
فلا ازدهار للفن من دون حرية ينمو في ظلالها ليؤدي رسالته الخالدة التي هي جزء من رسالة الخالق الأعظم الذي أتقن كل شيء. ولا حياة للفنان من دون حريته الشخصية الكاملة التي لا تقيدها قيود، ولا تخضع لسلطان ولا تستغل من أي فرد كان.
فالفنان الحر رسول حمل رسالة سماوية بطريقة الموهبة والإلهام لأدائها إلى بني قومه بل إلى الإنسانية جمعاء.
إنني أعتقد أن قلة الفنانين في أية أمة ناتج عن كثرة الذين يعتبرون أنفسهم رقباء ونصحاء، هؤلاء الذين يقولون للفنان: هذا حرام، وهذا قبيح وهذا عيب وهذا مخالف للتقاليد وهذا يثير عليك المجتمع وهذا يكثر الحديث عنك والأقاويل فيك. هؤلاء في نظري هم الذين يقتلون الفن والفنانين وهم البلاء الذي ينزل بالشعب لأنهم يطفئون نار الموهبة ونور الإلهام في سبيل لازدهار الفن في أمة من الأمم إلا سبيل الحرية ولا حياة للفنان بدونها.
أتراكم لم تشاركوا في الحضارة الإنسانية بسهم وافر بسبب كثيرة هؤلاء الرقباء الناصحين واختلاف أمزجتهم وألوانهم ومشاربهم، أم أن هناك أسبابا أخرى جعلت الفن عندكم نوعا من الشعوذة والفنانين قوما مجانين.
اذكروا دائما أن الحرية روح الفن والفنان وأن انعدامها موت للفن والفنانين.
وبدأ الضور يبهت وبدأت أشعته الشاحبة تمعن في الذبول وانقطع الصوت المتصبب من المصباح وتلاشى فرفعت رأسي لأرى ما حولي فلم أجد إلا ظلاما وتلمست مكان سريري واستلقيت عليه لأحلم بهذا الحديث.
الدين والفن
كلما كان الدين صحيحا سالما من الدجل والخرافات أثار فيك تفكيرا مستقيما، وحك في أعماقك شعورا نبيلا ساميا. وكلما كان الفن رفيعا هز فيك أنبل المشاعر وأعلاها وأرقاها وأسماها.
ذلك أن التأثير الذي يحدثه الفن في نفوسكم أنتم البشر شبيه بالتأثير الذي يحدثه الدين، لأنهما كما قلنا يقبسان من قبس علوي واحد ويستضيئان من مشكاة واحدة.
والدين الصحيح دين يعتمد الفن في رسالته، ويبلغ بالفن إلى مستوى رفيع وسام ومعجز، والدين الخرافي يهبط بالفن إلى مستوى هزيل ضئيل وحيواني في أغلب الأحيان. فاقرأ " نشيد الأناشيد " وهو المنسوب إلى نبي الله داود والتابوت في التوراة في العهد القديم تجد غزلا ولا تجد فنا، تجد اشتهاء ولا تجد سموا، تجد تشبيهات واستعارات وصورا وأخيلة هي بعيدة كل البعد عن الفن الرفيع، ومن ثم كانت أبعد من ذلك عن أن تكون من الدين الصحيح.
ولا كذلك كتاب القرآن حيث تجد الفن التعبيري قد بلغ حد الإعجاز، وقد ملك أفئدة الفنانين التعبيريين وجعلهم في بحر من لجي من الأحاسيس المرتفعة والإعجاب الشديد. واقرأ الأحاديث الصحيحة واقرأ الأحاديث الموضوعة تجد فرقا شاسعا بينهما من الناحية الفنية، وتجد التأثير مختلفا اختلاف الصدق والكذب والسلامة والاعتلال.
وأخشى أن تخلط بين مهمة الدين ومهمة الفن، أخشى أن تحسب أن مهمة الفنان أن يكن واعظا مرشدا. لا. إن مهمة الفن هي أن يخلق لك أشياء ويصور لك أشياء تنبض بالحياة وتؤثر أعمق التأثير في إحساسك وشعورك وفي ذهنيتك وعقليتك. ومهمة الفنان أن يرفعك معه إلى القمة التي يرتع فيها ويستمد منها أضواءه وأصباغه. ويقتبس من المثل الأعلى.
وانقطع الصوت المتصبب من المصباح وتلاشى فتلمست مكان سريري واستلقيت عليه لأحلم بهذا الحديث.
شاعر و فنان من المغرب
العمل المرفق للفنان غسان غائب