وحيدُ القرنْ

يحيى الشيخ

 

لا شيء يقلق بال الرجل العجوز ويشغل أيامه، غير ما يسقط من ذاكرته سهواً، ويقضي ساعات النهار حتى لحظات ما قبل النوم، وهو يصارع النعاس، يبحث عنه، فلم تعد لحياته أهمية أعظم من أهمية البحث عن المنسيات اليومية.

لقد ألف النسيان، الذي أخذ يرتاد رأسه باستمرار. مع الأيام تعلم طرقاً ووسائل للتعامل معه. تعلمَ أن يعلّق المفاتيح أول ما يدخل للبيت وقبل أن ينزع حذاءه، على مشجب خاص. لكنه لطالما علق مسبحته محلها وأهمل المفاتيح في مكان آخر. استنّسخ عدد منها وعلقها حيثما يمكن مشاهدتها: في المطبخ، في الأركان، على الأبواب، ورسم أكثر من سهم على الحيطان وعبارة "هنا المفاتيح". بفعل الكسل كان يأخذها واحداً بعد اخر كلما نسى واحداً، حتى لم يعد ما يمكن مشاهدته ولا حتى العثور عليه. أخيراً، انتهى أن يعلق برقبته حفنة منها ذات علامات لها دلالات محددة يفهما: مفتاح باب البيت، وعلامته حلقة معدنية، دلالتها: الدائرة المحكمة الاغلاق، مفتاح المخزن خارج البيت، خيط صوفي، مفتاح المكتب، قطعة خشب جاوي ذو رائحة طيبة، مفتاح الشرفة، علامته ريشة، مفتاح الخزنة الصغير ظل بلا علامة فهو لا يغيب عن الذاكرة بعد. لم يبخل العجوز على نفسه بالاستماع الى نصائح أصدقائه من جدوى حفظ ارقام التلفونات والمواعيد بدلاً من تسجيلها. حاول بكل جهد ينطوي عليه الالتزام بالنصيحة، غير ان أرقام التلفونات اختلطت بتواريخ واوقات المواعيد، فتبعثرت حياته مثل نجوم في سماء صافية، فتعامل مع النصائح بكل أريحية، وبابتسامة عريضة قال: "النسيان إرادة" فأهمل النصائح رأفة بنفسه.

تعلّم أن يعود بذاكرته إلى الوراء، إذا ما نسى أمراً؛ يقلبها رأساً على عقب، ينبش محتوياتها وهو يلهث جاهداً، تماما كما يبحث عن زوج جوارب تناسب هندامه ذاك النهار، ولا يعثر عليه، فيأخذ اي زوج يكون في يده آخر المطاف. غالبا ما يعثر على غير الذي كان يبحث عنه، سبق له وأضاعه ولم يجده... "لابد أن هناك ثقب في الوجود تنفذ منه الأشياء" هكذا تنتهي جولاته، وهكذا تبدأ كل يوم باستنتاج ثابت اليقين يقفز من العدم، ويختفي في العدم.

كان يتناول فطوره، فطور الرهبان كما يسميه: خمس حبات زيتون  وقطعة خبر بحجم الكف وزيت زيتون وزعتر، وقطعة جبن ابيض ماسخ، ولابد من قدح شاي احمر بدون سكر، فهو يكتفي بتمرتين. عادة ما يسخّن خبزه في الفرن وهو يعد فطوره ويغني، فيحترق ويأكله مغمسا بالشاي ليسهل عليه تناوله. قبل أن يبلع لقمته الأولى، برقت في ذهنه فكرة، فهرع إلى طاولة الكتابة ليكتبها قبل أن تهرب منه. ما أن جلس سمع الماء يغلي بشدة في إناءٍ كان على النار يسلق فيه البطاطا للغداء، فعاد الى المطبخ وأطفأ النار تحته. رجع ليكتب، نسى ما كان في ذهنه.

جلس مسترخياً مستسلماً يفكر بقدرة الافكار على الاختفاء! اين يمكنها الاختفاء بهذه السرعة دون اي أثر يشير الى مكانها، وتظهر على غفلة بوضوح جلي بدون مقدمات؟ أخذ يحك خلف أذنه يتلمس نتوءاً صغيراً، لم يبرح مكانه، بل أخذ يكبر ويتقرّن مع الأيام غير المعدودة. أمست أظافره خبيرة بتقشير الأدمة الميتة حوله. في كل مرة يتلمسه يجده اكثر ارتفاعاً وصلابة، له فوهة صغيرة دقيقة، ينز منها سائل دبق بلا رائحة سرعان ما يجف. تلمسُ البرعم الصغير والعناية بنظافته وازالة الاصداف من حوله أمسى وقت لمطارة ما هرب من الذاكرة. اكتشف أيضا أن حك المنطقة تلك ونبشها، مصدر لافكار اخرى ذات شأن في حياته: "هل يكون هذا هو الثقب الذي تسقط منه الافكار؟" سأل نفسه، وأجابها: "هذا ليس ثقب، انه قرن وليد سيكون له شأن في المستقبل!"

لم تقلقه الأسئلة ولا اجابتها ولا نمو البرعم المتقرن خلف اذنه، فهو قد يموت قبل أن ينمو ويكبر ويظهر للعيان كأي قرن طبيعي. ثم أن الحكة التي تلازم نموه لذيذة ومريحة جدا، ومسلية، بل ومفيدة؛ فهو كلما يهرشه أكثر يتذكر احداثا نسيها وكان ينوي الكتابة عنها. كلما جلس للتذكر، كان يدور في النتوء النشط بطرف اصبعه فينتابه شعور بالغبطة، فيطيل اللمس والخدر والتذكر. كتب:

- " ظلي، الذي سقطتُ سهواً من ذاكرته، جاع وأكلني"

لكنه لم يكن ينوي الكتابة عن ظله، فأرجأ فكرة الكتابة عنه إلى فرصة أخرى، تكون فيها الحقائق أشد وضوحاً، وليتأكد من أن ظله أخذ يعاني من النسيان هو الآخر. خطّ بالثلث على مساحة ورقة "ظلي الذي جاع وأكلني". ليتذكر في المستقبل الكتابة عنه.

بين فترة واخرى، تتراكم على طاولته أوراق مليئة بالملاحظات والمواعيد ومسودات دروس قواعد اللغة العربية التي يعاني منها، فيقوم بحملة يسميها "التصفية الثقافية" فيمزق ما على طاولته ويرميه مع القمامة. فيهدأ باله ويفرغ ذهنه تماما، ويخف حمله. غير انه يتذكر، في جلساته المتكررة، أن أغلب مشاريع الكتابة وأهم الأفكار كانت هناك، على الورق الذي تم تصفية وجوده. مرة أو مرتين أسعفه الوقت قبل أن تأتي ناقلة القمامة وتأخذ ما رماه فيها، وانقذ بعضاً من افكاره، أما أغلبها فقد تحول الى لون مائي شربته الاوراق المنقوعة البالية.

تذكر بعد أن هرش قرنه الوحيد وادماه، تذكر انه كان ينوي الكتابة، في يوم ما، عن فأر دخل فاتحاً جبهة الحائط بينه وبين الجيران. بسرعة كتب " الفأر" ليضمن عدم سقوط الحادثة في هاوية النسيان. وتوقف يسأل نفسه: "كيف اختلطت دلالة الفأر بدلالة الظل؟ ما الذي يجمع بينهما ليأتيان معا في ذهنه؟ ربما لأنهما يتسللان بلا صوت! وكلاهما قطعة ظلام ؟"

واصل ابهامه يلعب بقرنه الصغير، يتذكر الليلة التي سهر فيها يستمع لصوت غامض، واسنان تتكسر في سرداب البيت. من ثقب المفتاح شاهد فأراً يقرض خشب الحائط. فلم ينم ليلته، لكنه غفى رغماً عنه.

مبكراً، خرج، تحت المطر، يبحث عما يدافع به عن نفسه بمواجهة فأر نهم. في محل لبيع مواد زراعية، وقف على خدمته بائع شاب حبّب له فكرة مصيدة الفئران. قال له العجوز:

ــ إنها وسيلة إعدام! أنا لا أنوي قتله، بل منعه من دخول البيت، أو طرده.

ردّ عليه الشاب بثقة بائع محترف يجيد دوره، يتعامل مع مشتري غشيم يرتعد منفعلاً وهو يسمع أن زهاء نصف مليون فأر يعيش في أقبية المدينة بحرية كاملة، قال له:

ــ يمكنك يا سيدي، الاحتفاظ به حياً في المصيدة واطعامه والعناية به مثل حيوان بيتي أليف، وتغدق عليه.

فما كان من العجوز إلا الرضوخ لفكرة المصيدة، التي صادت له الفأر في الليلة الاولى. نزل اليه وكان مايزال يأكل بشراهة وهو يختض. قال له بصوت مسموع:

ــ الشَرِهُ لا يتخلى عن الطعام حتى وهو تحت المقصلة... تعال!

حمله بحرص شديد كما يحمل هودج أمير في القصص الشعبية، وصعد الى مكتبه. وضع المصيدة على الطاولة وأخذ يتأمل الفأر: عيناه خرزتان دقيقتان سوداوان. تابع حركته وهو يجول داخل الزنزانة، ويراقب حركة الذيل ويربطها بحركة الجسد. لم يعثر على اية صلة منطقية. خرج رأس ذيل الفأر من القفص. رغب ان يلمسه لكنه أحجم عن فكرته القذرة.

راح اصبعه الى قرنه الناشئ يتلمسه ويلعب به بود وحنان، وهو يقرأ عن الفئران. تنبّه الى أنه فاته كتابة ما كان يفكر به عن الفأر. وبدون أية محاولة، تيقّن انه لا يمكنه استعادة الكلمات ولا الصور التي مرت على باله قبل دقائق، كما أنه لم يكن ينوي الكتابة عن الفأر، بل عن أمر آخر ليس للفئران علاقة به.

مع زمن النسيان الطويل والمسترسل بهدوء تام، أصبح بإمكان العجوز الإمساك برأس القرن، بين الوسطى والسبابة والإبهام، ويفركه، وكأنه ينحته ويصقل سطحه. باتت العادة مستهلا للجلوس ساعات ويده مشغولة بالقرن وذهنه يحاول استعادة فكرته، التي قلعته من مكانه، والتي ضاعت منه في الطريق. إنه ليس طريق، بل مجاز قصير في البيت ما بين المطبخ والمكتب. في هذا الطريق القصير سقطت فكرته في الكتابة عن قرنه الوحيد، الذي سيكون له شأن في المستقبل كما قال عنه.

 

كاتب وفنان تشكيلي من العراق / النرويج

العمل المرفق للفنان يحيى الشيخ

 

 

 

started 1 MAY 2010                 email : info@ila-magazine.com

design: gitta pardoel logo: modhir ahmed   © ila-magazine