نص (نهيق في زمن الضيق) للمسرحي العراقي الكبير قاسم محمد

د. محمد سيف

 

بعد قراءة نص مسرحية (نهيق في زمن الضيق) للمسرحي العراقي الكبير قاسم محمد، اعتراني شعور غريب ورغبة عارمة في قول وفعل شيء ما … لقد اكتشفت أن قاسم محمد في هذا النص أو في هذه المقامة – مثلما يلذ أن يطلق عليها المؤلف، يكتب بكيفية مختلفة كل الاختلاف عن الطريقة المألوفة في الكتابة المسرحية، أنه يمارس في هذا العمل نوعا من الهذيان اليقظ، إن صح القول، بل قل هلوسة حلمية تبحث عن أصل وفصل للأشياء، فهو يحاكي المسرح العراقي في ماضيه وحاضرة مثلما يستنطق الممثل ذلك المدرك الفاهم العظيم، الذي هو حسب شكسبير، روح العصر وخلاصة التاريخ، وفي نفس الوقت ينتقد الوضع الحالي الذي هو بمثابة مؤلف للمسرح المالي والمسرح السلعي الجديد الذي استغل ظروف العراقيين الصعبة من أجل أن يطبل ويزمر لبضاعته الخائبة. إنه يتطرق في هذا النص أيضا، للأجواء الغامضة والملتبسة التي حلت في المسرح والمجتمع في ذات الوقت مثلما يبحث وينادي بمسرح مقدس ومدينة فاضلة يلجأ إليها الناس الخيرون والفنانون المخلصون.

آه … لماذا الحديث عن مسرح مقدس أو بالأحرى ماذا نجني من ملامسة هذه القداسة، إذا كانت قراءة سريعة لجريدة يومية قادرة على أن تحيل اكبر الآمال إلى عدم ؟ وإذا لم تكن أحمق غير نزيه، وغير مكترث أو أعمى لا يرى ما سيحدث غير مستحب أو مستحق، سترى جيدا أن الآمال قد استحالت إلى عذاب بعد أن صار ” اليأس” محرراً ومخلصاً. وهل هناك أحد مازال يعتقد حقا أن بإمكاننا تطهير العالم أو جعله أفضل ؟ إننا مقبلون على تحقيق رجوع إلى الخلف، نمارس فيه من وقت لآخر كل ما هو عشوائي، نقود مستقبل الأرض نحو سنوات القرن التاسع عشر الأكثر ظلمة. أي أننا نحاول أن ننسى ونتناسى في سيرنا أحسن الدروس التي مازال بمستطاعنا تعلمها، كاشفين هكذا عن عورة الجنس البشري الذي لم يحرز تطوراً إلا في إمكانيته العجيبة في أن يكون خشنا وغير حساس.

المسرح المقدس أو مسرح القداسة ؟! إن هذا النوع من المسرح نادر الوجود لا يمكن أن يتحقق أو يتأسس إلا في مجتمع مازال يحترم ولو بشكل بسيط معنى القداسة، يحترم معنى الإنسان وحقوقه. وإن وجد هذا المسرح حقا… فستكون عروضه طويلة… بل طويلة جدا. يمكن أن تستغرق رؤيتها بضعة أيام و أسابيع. وفي بقاع أخرى من العالم يمكن أن تستغرق أعواما، ويمكن أن تنشأ حوله عبادات، بل حتى حضارات.

وبما أن فكرة العمل أو أن فكرة اقتسام العمل في مثل هذه العروض ستكون محلولة أو متجاوزة، سوف لا تكون هناك مشكلة ممثل وجمهور ولا مشكلة فنان ومتفرج. لأن هذه العروض تتطور بفضل تنظيم وتدبير غاية في التعقيد ما بين التقليد والعفوية، ما بين الاشتراك والملاحظة وما بين الذكاء والاندفاع، وستكون هنالك أيضا أنظمة وقوانين كثيرة ولكن يجب تجاهلها. عند ذلك لم يعد هنالك معوقون، لأن الهامشيين المهمّشين والغائبين المغيّبين سيكون لهم حضوراً خاصاً. ولكن أتمنى، في كل الأحوال، أن نبقي أو نحافظ على بعض الهذيان والهلوسة، انه ضروري، لأن المسرح من غير عبادات وتعبد ومن غير هذيانات وهلوسة ليس بمسرح. السفر سيكون ضروريا أيضا، لأننا في السفر والترحال سوف لا ننتهي أبدا حيثما بدأنا.

بعض العروض سوف تنفتح على الأرض بأكملها، وسوف لا تحتاج مشاهدتها بطاقة دخول ولا نقد. وسوف لا تكون فيه كليشيه من الكليشهات التي يمكن أن نخشاها. ذلك لأن الأيام سوف تتخلص من مشكلة يومياتها العادية وبحثها المقلق والمستمر عن قوتها اليومي. إن المسرح المقدس يستطيع أن يكون مليئا بالصراع، بالصعوبات، بالدم، بالقلق، لأنه بكل تأكيد سيستعين أو بالأحرى سيلجأ إلى الحرب كمحور من المحاور الأساسية التي سوف يؤسس عليها فضاءاته، ومن المحتمل أن الأشياء والمواضيع ستذوب وتنصهر في ثنايا المتغيرات والمتحولات العالمية ؟ إن التحولات والتغيرات ستكون بمثابة هيئة ومظهر لأشياء : سوائل وجوامد من كل نوع وصنف متناقضة ومتنافرة ستتحدد فيما بينها وتصبح قوة واحدة متماسكة. في هذا المسرح ستقدم لنا الأغذية، مثلما سيتم فيه تبادل في الدم وفي الثقافات وتصبح وظائف الجسم الأساسية جزءا من الفعل. وبما أن الأمر سيكون على هذه الشاكلة، فهل بامكاننا أن نعتبر كل هذا قريبا وشبيها إلى حد كبير بالفترة السبعينية للمسرح العراقي ؟ والجواب هو ربما، وذلك لأن الفترة السبعينية للمسرح العراقي كانت فترة شبه فاضلة وذات مسرح مقدس تقريبا أو على الأقل هذا ما كنا نتأمله منها عن قرب. ولكن وللأسف الشديد فشلنا سريعاً وفشلت معنا التجربة لأننا وبكل بساطة، لم نعرف كيف نغتنم الفرصة! لقد قامرنا بفرصتنا الذهبية قبل أن نحاول تطويرها، تركنا الفرصة والحظ خلف ظهرنا قبل أن يأتي الوحي أو البشير. وبما أن نوم العقل والسبات العميق الذي حل بمسرحنا فجأة ومن دون مقدمات يستطيع اليوم أن ينجب وحوشا وسفلة وباعة مسرح سلعي، فهل يستطيع المسرح الفاضل المقدس أن ينجب أبطالا وشهداء ؟

 

وإذا ارتكنت الدولة الحقيقية ولم يعد لها دور يذكر، هل بمستطاع المسرح أن يحل محل الدولة ؟ وإذا لم تختف الدولة أو لم تتنازل عن دورها القيادي هل بمستطاعه أن يكون المهدد الأكبر لها ؟ وبما أن الدولة يجب أن تكون على الأقل دولة شبه عادلة إن لم تكن عادلة كليا (هذا بكل تأكيد إذا كنا نتحدث عن دولة ومسرح في مجتمع يوتوبي فاضل) سيكون في مقدور المسرح أن يجابه جميع المخاطر، أي انه يصبح بمثابة جسد حضاري يتمتع بنوع من المرونة التي تجعله قادرا على نهج سلوك ينسجم مع متغيرات وتحولات العصر، واضعين على جهة، العاطفة والعواطف، وهكذا يصبح في مقدور المسرح المقدس أن يبرهن أيضا على أن العرق البشري قادر على التكيف وجدير بهذه المتغيرات.

إن هذا النوع من المسرح سيدلنا على الطريق مثلما سينيره لنا. انه سوف لا يتركنا عرضة للصعوبات، لا يتركنا نتوقف طويلا أمام مسألة معرفة فيما إذا كانت الحياة اليومية مشروطة بالمزايا أو أن المزايا مشروطة بالحياة اليومية أو أن البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة. وإنما على العكس، انه سيعمل على إنتاج مفاجأة قادرة على قطع وحل عقد صعبة الحل، إنتاج رؤى، بل قل هلوسات وخيالات مثلما سوف يعمل على خلق سحرية واقعية وليست صناعية. بالتأكيد، سوف تقع هنالك مجابهات وصراع حاد ودرامي في بعض الأحيان ما بين المختلفات الكبيرة، ما بين اللجج التي سوف تتلاطم ببعضها لحظة التحول، ولكن جميع هذه الأشياء سوف تقع دون قلق وهم مؤكد. لأن التاريخ إذا تعثر أو توقف ذات يوم، فجأة، سيصبح المسرح تاريخاً لنا وإذا حافظ هذا التاريخ على نفسه ولم يختف من الوجود سيكون المسرح لهونا الرائع والعظيم مثلما سيكون التسامح ممكناً ومعمولاً به.

في مثل هذه اللحظة التي لا تشبه كل اللحظات، أستطيع أن أتخيل صورة تقريبية لعروض هذا النوع من المسرح في المدن التي يفترض أن تكون فاضلة، أستطيع أن أتخيل نفسي جالسا في إحدى الصالات الرياضية المغلقة، أو لماذا لا تكون مفتوحة وفي الهواء الطلق على غرار المسرح الإغريقي القديم، محاطا بمجموعة من الأصدقاء وفي الأسفل، أي في أسفل الحلبة هناك مخرجون وممثلون سلعيون يمارسون طقوسا تهريجية قاتلة، يكتبون بحركاتهم البهلوانية المثيرة للضحك والباعثة على التقزز تاريخ وقوانين عصر فاسد ينبذ فيه الفنان المخلص ويرجم بالحجر أصحاب الكلمة بعد أن جردوا من أبسط حقوقهم الاجتماعية- عراة، مقيدي الأيدي والأرجل يقدمون الواحد تلو الآخر على أطباق فضية ناصعة البياض إلى مجموعة شرهة، مجموعة من أكلة لحوم البشر، وفي نهاية العرض، يقدم إلى هؤلاء الشرهين الأكولين ما تبقى منهم من هياكل عظمية مثل تحلية بعد وجبة دسمة.

إننا نستطيع أن نحصل في المسرح المقدس على هذا النوع من العروض بكيفية افتراضية وذلك بفضل جهاز كهربائي يوضع بشكل خفي وغير مرئي في المقاعد التي نجلس عليها ويمكن أن توضع أيضا في ملابسنا مثلما يمكن أن نحصل على هذه العروض الافتراضية بواسطة عقاقير وأدوية مخصصة لهذا الغرض يتم تناولها قبل بدء كل عرض من هذه العروض. وبفضل التكنولوجيا الحديثة سيتردد صدى صراخ السلعيين من خلال مكبرات الصوت في جميع الأنحاء في حين يتلذذ آكلة لحوم البشر بعملية المضغ. بالتأكيد أن المشاهد ستكون مثيرة وممتعة للغاية ولكنها تبقى غير مقدسة ولا يمكن أن تحدث في المدن الفاضلة. وفي هذه الحالة، سأكتفي بإمكانياتي على التخيل والحلم وليس الحقيقة لأن الحقيقة مثلما يبدو أنها قاسية. ولكن بما أن الحلم والخيال جزء من الحقيقة، حسب رأي فرويد، يمكن اعتبار ما تم تخيله من صور بشأن المسرحيين التجاريين السلعيين حقيقة وواقعا معاشا بالنسبة لي على الأقل.

في المسرح المقدس سوف تعيش الحيوانات أيضا وسوف يصبح لهم حضور حيّ وسيشتركون فيه بمشيئتهم هذه المرة لأنهم سيكونون حاضرين عندما سيكون للغذاء حضور. أي أن حضورهم سيكون جزءا لا يتجزأ من المتعة المشتركة التي يمكن أن يشعر بها الحيوان والإنسان في آن واحد، لأن المسرح سيسمح لنا، في النهاية، بأن نعبر عن حالات قربنا واقترابنا من الطبيعة التي ستحررنا من عبوديتنا بعدما أصبحنا وبفضل ظروف خارجية اقتصادية، دينية أو سياسية نعامل النفس على أساس أنها شيء مسلوب ومرتهن بأشياء نخاف قسوتها وألاعيبها، ومن وجهة النظر هذه ستكون المسارح المتخيلة (الفاضلة والمقدسة) نيرة وأكثر صفاء من وثائقية التلفزيونات، لأنها سوف لا تحتوي على لغة إنشائية وسوف لا يحتلها فضاءات حكواتية مثلما سوف لا تتبنى بعض الأيديولوجيات الكائنة من تكون.

إن المسرح السيئ سيعاقب أشد عقاب ويحكم عليه بالموت، ومن أجل أن تنفذ العقوبات فيه لا بد أن يكون العالم أكثر حضارية مما هو عليه. وعلى هذا الأساس سيتعرض الكثير إلى العقاب.

 

فنان ومخرج مسرحي وكاتب من العراق / فرنسا

started 1 MAY 2010                 email : info@ila-magazine.com

design: gitta pardoel logo: modhir ahmed   © ila-magazine