النار الأولى

حسان بورقية

 

   أليستْ صدفة رائعة أن يعرض نبيل بودرقة في رواق فنيس كادر؟

   ماذا كان يرسم نبيل ذاك النهار عندما تعارفنا لأول مرة؟

 

   سبق له أن شارك في معرض جماعي برواق صندوق الإيداع والتدبير، بالرباط، مع بعض الفنانين  المغاربة في سياق دورات " الكارْط بْلونش" ( بطاقة مرور)..

   إلْتقيتُ بِنبيل أربع سنوات خلتْ. كان ضمن قائمة الرسامين الشباب الذين أطًّرْتُهم لأسبوع بِطلبٍ من المؤسسة الملكية للثقافة الأمازيغية بالمغرب... وجدتُه في القاعة قبل موعد الحصة الأولى وقد بدأ يرسم واقفا، مولِّيا ظهرَه لِباب القاعة ووجْهَه للنافذة، لِنور السماء..

   كان متحمِّسا وهو يرسم، ثم وهو يُطلعني على ملف رسومه الأولى، أو وهو يحدثني عن إعجابِه بالفنان إيغون شْييله، وعن مغامرته الفوتوغرافية وقصائد والدته الشعرية..

   ماذا كان يرسُم ؟ ربما قانونَه الفريد... القانون الذي يجب أن يكون خصوصية كل واحد، والذي هو قانون الفن في مظهره الحديث: يعني أن تتصرف أو ترسم على نحو يجعل من فُرادَتِك القانونَ الكونيّ العام..

   في هذه السلسلة من الأعمال التي يعرضها في فنيس كادر، يُذكِّرُني نبيل بجملة للفنان الهولندي كاريلْ آبّيل، إذ يقول: " لم تعد اللوحةُ بناء من الألوان والخطوط، إنها حيوانٌ، ليلٌ، صرخةٌ، كائنٌ بشري. اللوحة كلٌّ لا يتجزأ." في هذه السلسلة شيءٌ من اللعب الطّفولي الجادّ.. هناك وجوه "تتكرر" داخل مقاسات ورقية متشابهة تقريبا، كأن نبيل يقوم بنفس العملية تقريبا.. لكن التكرارَ - والكل يعرف هذا- وتناولَ نفْس الشيء، يؤكد أن النظر لا ينقضي ولا يتكرر: إنه إعادة تناول عنيدة أساسُها الرغبةُ في اكتشاف وامتلاك ما هو قيْدَ الانفلات، كأنها تبحث عن الوجه خلف القنِاعِ، أو معاودة الافتتان المُدَوِّخ بالأعماق للعثور ثانية على لعبة الانعكاس فوق سطح المياه:

أيُّ شيءٍ نرى إنْ لم يكن ذاك الذي يتَعتّم،

أي شيء نشتهي إنْ لم يكن ذاك الذي يفْنى ويندثِرُ..

(إيفْ بونْفْوا).

   اللون الذي يستعمله نبيل، هو غياب اللون الأكثر كثافة والأكثر عنفا... إنه نوع من التعايش بين القاتم (الأسود) والنور، ووجود الواحد منهما بوجود الآخر كما لاتوجد الموتُ إلاّ بالحياة.

   لا تولَدُ الوحوشُ أبدا بالصدفة. إنها تجسّد المخاوفَ العريقة والكونية: الخوف من المجهول، من الظلمة، من المبهم، من الفوضى وكوابيس اليوميّ... حتى أن سرعان ما ينبثق شكلٌ غير متوقع، لا نتبيّنُه في عالم منظَّمٍ خاضعٍ لقوانين معينة. حيثما تكون المخاوفُ يسرح الخيال. لهذا كان المعتَّمُ أو المظلم، كالليل، عالًما للشكِّ، اليأسِ وأنواعِ الضَّلال.. لكنه أيضا فترة إشراقٍ ثريّة، يعْرفُها الصوفيةُ والشعراءُ، إذْ فيها تأخذ الأفكارُ أشْكالَها.. إنها ذلك الحجابُ الشفاف، المنيرُ، الذي يغطي السوادَ الذي تسبح فيه الوجوهُ.

   ماذا كان يرسم نبيل قبل أن ندخل القاعة؟ هل كان يبحث عن اختلاق شيء مّا فيما وراء الواقعِ يسمحُ له بأن يكون حرّا؟

   عندما يحاول نبيل شرح ذلك، ربما كانت الكلمات تخونُه... أو ربما كانت التجربة أكثرَ حميميةً من أن تُباحَ؟ لكنني لاحظت - وهذا أمر لا تخطئُه العينُ- بأن ما يُشْعِل شهوتَه للرسم، يكمن في تلك القوة الانفعالية الفريدة التي تبحث عن نورٍ سرّي قائم في الأسود. ليست القتامة بالنسبة إليه سوى نوعٍ من الانسحار..

   عيْنُ نبيل الفوتوغرافية عينٌ شعرية بالتأكيد، تخطف النور، فيها شيءٌ مّا روحانيّ، دائم الاشتعال. يشبه حضورُ (هذا الشيء) نوعا من الغياب. لذلك ربما يعرف أن الكلام والكتابة لهما قوةٌ يمكن أن يشوبَها نقصٌ مّا... لكن الشعر، الكامن في لَحْمِه ، يمكن أنْ يقتسم معنا هذا الشيء الذي لا يستطيع قوله أو التعبير عنه بالكلمات... لهذا اختار نبيل أن يعبر عنه بالفن..

   أعرف أن الرسم بالنسبة إليه اليوم، أو ابتداء من اليوم، هو مكانُ المواجهةِ بامتياز. كنت أراه  وهو يرسم كأنه يدخل إلى هذا المكان وهو يعرف أن عليه أن يواجِه ما لا يمكن مواجهتُه وأنْ يمنح شكلا لما لا شكل له، أي باختصار، رسم تلك القوة المبتلِعة والساحرة.. إنها حربٌ تتطلب الصمودَ لأن طريق الإبداع هاته لا يجب الاستخفافُ بمخاطرها إن هو أراد أن يأتي بشيء جديد..

   لِنُسَمِّ هذا المعرض إذن خميرةَ نبيل الفنية بما أن الطريقَ قد اختارتْه لذلك.

 

كاتب وفنان تشكيلي من المغرب

الأعمال المرفقة للفنان نبيل بودرقة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

started 1 MAY 2010                 email : info@ila-magazine.com

design: gitta pardoel logo: modhir ahmed   © ila-magazine