مي مظفر في «غياب» رافع الناصري

 

محمد علي شمس الدين

 

يحمل غلاف ديوان «غياب» (عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر) للشاعرة العراقية مي مظفر، المقيمة في عمان، صورة «كرسي» عليها كتاب مفتوح. كأنّ هذه الكرسي صنعت ليملأها شخص بجسمه، أما أن تكون فارغة فهو إذاً الغياب. لكنّ القصائد سرعان ما تمتلئ بحضور الغائب الذي هو رافع الناصري، الرسام العراقي الراحل. فرحيل رافع هو الغياب الأكبر. لقد أمضت مي مظفر مع رافع الناصري أربعين عاماً، ثم رحل عنها إلى العالم الآخر. لذا، فإنّ جوهر قصائد الديوان يدور حول تلك العلاقة الغامضة بين الميت والحيّ، بحيث يمتد الميت في الحيّ والحيّ في الميت، وحول الحياة كسؤال يمر بين الحلم واليقظة.

فالذاكرة تمسك بأصداء كثيرة، لكنها غربال أو محض خيال عابر. كالطيف يمرّ، يجلس في المقهى، يقاسمنا القهوة والحديث. ولكن، لا هو مرَّ ولا جلس ولا شرب ولا تكلّم. فالغياب الذي تعنيه الشاعرة في قصائدها هو أكثر تعقيداً من أن يكون غياباً بعد حضور. إنه التباس الحضور نفسه، أو الشك في هذا الحضور وفي إحداثياته وإشاراته. حتى لكأن ما كان لم يكن. أو كأن «مياه البحر محت كل أثر/ الرمل الناعم لا يحفظ ختم الأقدام»، كما في قصيدة «طيور البحر». نستطيع أن نتابع خطّ سير القصائد من الحضور إلى الغياب ومن الغياب إلى ما بعد الغياب. ونلاحظ أنّ ما يشفّ من الألم، في محطات التذكر، أو استعادة ما كان على أنه بقايا جراح محفورة على نفس شفافة، لا يلبث أن يصبح في آخر الذكريات حقلاً للتأمل، أو للحكمة.

 

«طيور مهاجرة»

تكتب الشاعرة في القسم الأخير من مجموعتها، وهي بعنوان «طيور مهاجرة»، شذرات مختزلة ومتتالية عن تحليق طائر، أو حديث العندليب، أو شبح طائر أسود ظهر مع بدء الخليقة، أو عن طيور نفقت بنار الحرب، أو طائر مسافر نحو المجهول أو نسر متربّص في العتمة بفريسته. ولا تبتعد طيور البحر والحمام المطوق وصقر الفرات، عن أن توقع توقيعاتها الأخيرة في دفتر مظفر، وذلك بعدما سبقتها تجليات الغياب «كسرد نثري» تأملي في سويعات ما بعد الموت. موت رافع الناصري، وهي تهيؤات ما بعد الموت أو امتدادات الميت في الحي.

بخوف كبير وبكثير من البساطة، تكتب مي مظفر قصائد ديوانها كتابة غسقية مختصرة ومؤلمة. فلا يحتمل الشعر بين يديها أكثر من أبيات على صفحة واحدة. نادراً ما هي تمتلئ بالكلمات. تظل القصيدة أقصر وأبلغ. هي إذاً تكتب المراثي الصغيرة، أو شهقات الشعر، أو أناشيده المختصرة الحزينة. تكتب كأنها تسجل يوميات الألم والوحدة والغياب. وفي الوحدة، تتوارد الأفكار كأشباح، ويختلط المظنون به بالحقيقي. ففي كلّ ظل شبح يمرّ أو يلوح. وما الشبح؟ وما الطيف؟ وما الظل؟ «في الصمت ظل معتم/ ووراء هذا الظل ظل/ فمن التي مرت وعافت ثوبها ينسل فوق أريكتي في غرفتي؟» (قصيدة طيف). أو «ذاك الذي كلمته/ ونفرت منه رأيته/ يندس بين رفيف جفني والبصر/ فصرخت لم يرتد/ لم يرحل/ ولا من كفه سقط الحجر» (قصيدة ظلّ).

في مثل هذه السوناتات المختزلة، نقف أمام شاعرة تكتب في وقت الغبش أو الغسق. والغسق هو إما وقت آخر النهار وقبل هجوم الليل أو وقت أول الفجر وقبل طلوع النهار. وهذه الكتابة الغسقية هي كتابة أنثوية بامتياز، حتى لو كتبها رجل تبقى أنثوية. أعني أنها كتابة خائفة، عاطفية، حزينة، معصوبة الجبين بسبب حمّى قوية هي حمى القلق الغامر. أقول أنها كتابة منكسرة أو قابلة للانكسار، كآنية موضوعة على طرف مكان عال.

 

بين ثلاثة فنون: تقنية القصيدة

مي مظفر مبدعة عراقية موضوعة على تقاطعات الفنون. والفنون التي مارستها وبرزت فيها هي القصة والشعر والسيرة التشكيلية. فإن صاحبة «خطوات في ليل الفجر»، المجموعة القصصية الأولى التي صدرت لها في بغداد 1970، ما لبثت أن أصدرت كتابها الثاني عام 1979 في القصة القصيرة بعنوان «البجع». والقصة القصيرة هي أقرب ما تكون للقصيدة، بل لعلّ هذين الفنين الحديثين متداخلان لدى بعض الناس إلى حدّ الاختلاط. هذا ما نلاحظه لدى يوسف حبشي الأشقر مثلاً. لذلك، لا نفاجأ إذا انتقلت مي مظفر، بعد مجموعتين قصصيتين إلى الشعر، فأصدرت أول دواوينها عام 1985 بعنوان «طائر النار» (بغداد 1985) تلاه ديوان «غزالة في الريح» (بغداد 1987). ولو أحصيت مجمل ما تناوبت على إصداره الشاعرة من قصص قصيرة، أو القاصة من دواوين شعر، لوجدت مي مظفر قد أمسكت الميزان من منتصفه تماماً. خمس مجموعات قصصية وخمس مجموعات شعرية. وهذا الانتقال بين يديها من موجة إلى موجة، يظهر وكأنه انتقال في بحر واحد، من مركب إلى آخر. ذلك لأن القصة القصيرة التي كتبتها مي مظفر، فضلاً عن حوادثها وأشخاصها، مشحونة بكثافة تعبيرية وبرق لغوي لا يحتمله سوى الشعر. ونلاحظ في كتاباتها الشعرية، إضافة إلى كثافة اللغة، حركة قصصية تميل إلى السرد أو تسجيل ما جرى. ولعلّ تقنيتها في كتابة القصيدة، تنطلق من نواة فكرة أو نواة حدث ما، يسعى إلى أن يتجسد بالصورة والعبارة الموقعة، الموزونة، بحيث إن الإيقاع يأتي مناسباً لحال الفكرة أو الإحساس الأول، المادة الأولى للقصيدة. فهي شاعرة حداثة وزنية، كنازك والسياب والبياتي وبلند وسواهم من رعيل الحداثة الشعرية الأولى في العراق.

إن الشعر لديها يساوي تحويل الإحساس أو الفكرة إلى صورة ووزن. وهي إذ تكتب صوراً شعرية أو تأملات أو أحاسيس ذاتية، فإنها تصنع من القصيدة، التي هي غالباً صغيرة مقطعية، محاولة في القص، لا تلبث أن يقطع جريانها القصصي أسئلة أو اعتراضات أو إشكالات تحوّل مجراها من طريق القص إلى طريق الشعر. فإذا حدث ما يحدث في النص من خلال الإيقاع الشعري - وهو قياساً إلى تجربتها الوزن - على اختلاف صوره وأجزائه، فإن المحصلة قصيدة، وإن كان القصّ يتدخل ولا يوغل أو لا يصادر الشعر. مثلاً قصيدة «نهره الأول»: «طير/ على ضفاف نهره الأثير حائماً/ يقرب حيناً منه/ ثم يبتعد/ هل حالماً كان يطوف أبحراً/ مسترخياً في لحظة مشردة؟/ هل كان عصراً أم ضحى؟/ هل كان جرفاً من غرين أم حجر؟/ هل كان طيراً/ أم صدى؟/ أم رعشة في مكمن البصر؟».

العنوان عن النهر، لكنّ القصيدة عن سيرة طائر يحوم حول ضفة النهر، يقرب ثم يبتعد. ثم لا تلبث الأسئلة تترى حول الطائر هذا ما هو؟ وفي أي وقت حام؟ ثم أهو غرين (طين) أم حجر؟ أهو طير أم صدى؟ أم إنه ليس سوى نظرة مرتعشة (واهمة)؟

الإطار، على ما نرى، قصصي. بينما الصور والأسئلة شعرية والإيقاع موزون، وإذا كان السياق حكائياً، فإن السؤال الأخير للنص ينتمي إلى روح الشعر (وهي هنا أيضاً روح الرسم من خلال تتابع الصور).

هكذا هي تقنية مي مظفر، على ما نرى، في كتابة نصها الشعري. فهي هنا شاعرة قاصة، والأمران معاً. أي الشعر والقصة محمولان بالصورة، ما يقربها من عالم الرسم. عالم رافع الناصري الغائب الذي له كتبت القصائد.

وفي مجمل كيانها الإبداعي، أو هويتها الفنية، فإنه يقتضي أن نذكر، إضافة إلى ما كتبته من قصص قصيرة، وقصائد شعرية، ما أصدرته من ترجمات قيمة عن الإنكليزية، وما تركته من كتب في السيرة الفنية. فهي ترجمت باكراً كتاب تيد هيوز المسمى «صناعة الشعر» من الإنكليزية إلى العربية (1987)، وترجمت كتاب «اللوحة والرواية» لجفري ميرز، وكتاب «الأوهام البصرية» لنيكولاس ويد و «الشعر والرسم» لفرانكلين وماري روجرز، وديوان «باريس عندما تتعرى» لإيتيل عدنان (صدر عن الساقي 2007). فهذه الترجمات تعنى بثلاثة فنون، كانت عنيت بها الشاعرة في وقت واحد: الشعر والقصة والرسم.

وتعتبر مي مظفر هي الكاتبة الأكثر حميمية لسيرة الفنان الراحل رافع الناصري (زوجها) من خلال ثلاثة كتب، تعتبر سجلاً سيرياً لمسيرة الفن التشكيلي العراقي، وهي سيرة فنية لرافع الناصري، منها «رافع الناصري: حياته وفنه» (2010) و «رافع الناصري رسام المشاهد الكونية» (2010).

 

عن الحياة

 

شاعر من لبنان

started 1 MAY 2010                 email : info@ila-magazine.com

design: gitta pardoel logo: modhir ahmed   © ila-magazine