الثنائيات المتقابلة في أعمال سنان أنطون

صالح الرزوق

 

يتابع سنان أنطون في روايته (فهرس)* أسلوب الصوتين. فالرواية تشبه حوارا متواصلا بين عدد من الثنائيات. لقد بدأ مغامرته مع الرواية بـ (إعجام)، وهي قليلة التفاصيل وتعتمد حبكتها على التقابل بين واقع بطلها السياسي وممضمونه النفسي. فالحياة حسب درجة نضجه أو وعيه تنقسم إلى معطى وممنوع، ومنظور وغامض، وربما إلى أشياء قابلة للتفتح والإعلان وأشياء مسكوت عنها.

وتتكرر نفس اللعبة في روايته المتميزة (يا مريم)، فهي تقابل ثنائي بين أضداد.. المؤسسة الدينية وفكرة الدين وعلاقة كل منهما بضرورات الاغتراب في الداخل ومخاطر التغرب والضياع في الخارج. وقد ترتب على هذه البنية نوع من المفاضلة بين ثنائية المقاومة والممانعة.

وهذا هو جوهر بنية (فهرس). إنها جملة طويلة معقدة من دال متفق عليه ومدلول ذاتي. ويكفي أنها تعيد للأذهان (الفهرست) لابن النديم بكل بنيته الوجدانية. فهذا العمل الكلاسيكي يعتبر بمثابة (ألف ليلة و ليلة) لكن في مضمار الوقائع و ليس الخيال. ومع أن الموضوع في الرواية بظاهره سياسي يدور حول مشاكل الوطن والهوية والاحتلال، فإن الحكمة الحقيقة أو جوهر العمل يقترب بالتدريج من أن يكون صراعا بين الشيء وذاته، لأنه كما يقول الراوي: في أي شيء وأي كائن يوجد مدار يحتله لوحده مهما طالت أو قصرت دورته (ص 265).

 

ليضيف بعد قليل: إن كلماته بدأت تشبه كلمات قرأها في مدونات غيره (ص 265).

 

إن فكرة هذه الرواية تتكون من عكس مبدأ الرواية العربية التي تأسست في بواكير القرن العشرين. كانت الحكاية تبدأ برحيل البطل من الشرق إلى الغرب. وهناك تدخل الحبكة في تعقيدات أخلاقية ذات بعد تنويري ومعرفي. ولكن تحولت منذ عام 2000 على الأقل إلى الأطروحة المضادة. بعودة بطل الأحداث إلى مسقط رأسه.

 

هذا هو شأن نجم والي في (بغداد مالبورو) وشأن برهان الخطيب في (على تخوم الألفين) وهو ما فعله أيضا بهاء الطاهر في أفضل أعماله (واحة الغروب).

 

ولك أن تتخيل موقف هؤلاء الأبطال المتقهقرين بحركة مرتدة، وصور تشكيل وعيهم كلما تطور الصدام بين ماضيهم وحاضرهم. إنه  موقف لا يقل بطرافته وعمقه عن صراع الحضارات بين شرق مذكر وغرب مؤنث، وبين وجدان مفطور على فكرة العذرة والبكارة وعقل نفعي وبراغماتي.

 

تنطلق رواية (فهرس) من عودة الدكتور نمير إلى بغداد ولقائه مع ودود ثم عودته إلى نيويورك ولقائه مع مرايا. ومع أن رحلته ذهاب وإياب، سفر مع بطاقة عودة، يحصل نوع من التبادل بين المعرفي والوجداني، أو نوع من الارتباك الناجم عن تصريف المشاعر المتقلبة بسبب تفاوت قانون المراحل (ص 33). وهذا يمهد الجو لحوار غريب باهت أحيانا، ذكي ولبق في جل الأوقات بين أطراف يمكن أن تختصرها في مبدأين.. الذات ومثيلها، أو بفكرة الذات التي تنظر لنفسها بمرآتها الخاصة، والذات وضدها أو فكرة أنا غيري. وبتعبير لاكان: أنا آخري.

 

وهو ما نستطيع أيضا التعبير عنه بجملة من الثنائيات التي يسميها جورج طرابيشي الأنا الأعلى ومثال الذات والأنا المثالي.

 

وعلى ما أعتقد إن الحوار بين هذه الأطراف هو الدراما الحقيقية في هذه الرواية وفي الروايات السابقة عليها.

 

إن دراما سنان أنطون تتميز بمثل هذه الألعاب والتمرينات التي ترشحه ليكون كاتبا شكلانيا متخصصا بموضوعات سياسية. وهي حالة شديدة الخصوصية بالنظر لمحيطه. فكل أبناء هذا الجيل يغوصون من خصورهم وحتى رؤوسهم في وحل الواقع بلا مزيد من الاهتمام بالتفريعات والتنويعات. إنهم يباشرون مع الواقع من لحظة الغليان. ويرفعون من درجة حرارته بمحاكاة مصادر الإحباط وتعرية فقرنا الذاتي في كل الأصعدة، من الناحية الحضارية والنفسية عند علي بدر، ومن الناحية الاجتماعية والسياسية عند عبدالخالق الركابي.  وحتى واقع الحال الموضوعي الذي يدعو لليأس والخيبة والتآلف مع مصادر الانكسار والتقهقر عند نجم والي.

 

لكل واحد من هؤلاء الروائيين رطانته الخاصة والتي تبشر بمزيد من المرارة والهزائم. لكن يضيف سنان أنطون مصدر قلق آخر يتعلق بالأسلوب.

 

إنه يضرب رأسه بجدار المدونة المعروفة وينكر دور وحدات السرد الكبرى ( بتعبير الناقد حمزة عليوي)** ويعمد لتجزئتها.

 

وللتوضيح.

 

بوسع القارئ أن يلاحظ أن (فهرس) رواية غير عادية. وترتيب الحوار بين أجزائها غير إلغائي، الطرف الأول لا يستطيع وضع حد نهائي للطرف الثاني لسبب واحد وهو اتباع تكنيك المرايا المتقابلة. فالصور كالأفكار تتكرر إلى ما لانهاية، بتسلسل وتقابل، وبغاية تحويل الحياة إلى سلسلة غير متناهية من المتوازيات.

 

وهذا يمكن تحديد نطاقة في ثلاث حلقات .

 

الأولى هي طبيعة الحوار.

 

فإذا كان تبادل الكلام بين الشخصيات على اختلاف طبائعها بالمحكية أو باللغة الدارجة في الداخل، فإنه يتم بعدة لغات في الخارج. وهذا يفرض على الكاتب أن يتدخل ليترجم لنا ما نعلم معناه مسبقا.لكنه غير مفهوم لأحد الأطراف، وكأننا أمام معضلة دريدا في التداول وتوسيع نطاق المعنى.

 

إن كلام نمير مع ودود في بغداد يقابله كلام نمير مع مرايا في نيويورك.

 

في الحالة الأولى لا يوجد جدار عازل بين الأطراف، بينما في الحالة الثانية نحن أمام ثلاث محكيات تعود لطرفين فقط.

 

ولا ضرورة لتذكير أحد أن هذه المشكلة تفتح الباب على عقدة أوديب وفكرة الصراع بين الآباء والأبناء وبالتالي بين الغرائز من جهة والأجيال من جهة أخرى. فالمصالحة في الداخل بين الأب وابنه سببه غياب الأم، موضع الخلاف الأساسي، بينما هي موجودة بكل عنفيتها وقدرتها على التحريض في مكان الاغتراب. إنها تبدو بشكل حاجة وجودية ومهد لا بد منه ونقطة نور تحدونا لتحريك وإنضاج الأحداث نحوها.

 

وإذا لم يكن الابن منظورا فهذا فقط لأنه محمول أو مستتر. إنه ابن مؤجل تفترضه بنية الأحداث ونهايتها المفتوحة على عدة احتمالات. حتى أن خاتمة الرواية كانت بفصل عنوانه نهايات. وفيها يقدم الراوي عدة نظريات لتفسير نهاية الابن المحمول وبدائله.

 

فأول مصير يختاره لـ (ودود) لا يجده مناسبا ولا مقنعا (كما يقول - ص 274)، وسرعان ما يقرر كتابة نهاية أخرى. كأنه كائن وجودي من مخلفات عصر النهضة والتنوير الأوروبي الذي يرى كل شيء مدعاة للشك وبحاجة لمزيد من البراهين والإثباتات. فالحياة كما يرى تبدأ بجرح، ونتنفس خلالها لنموت فقط، غير أن طريقة موتنا لا تعدو أن تكون محض اقتراح (ص 289).

 

ويختتم هذا الجدل الرواقي بحكمة ملخصة: أن نهاياتنا عموما ليست لنا (ص 289).

 

لا يمكنني أن أعتبر حواريات (فهرس) نوعا من الحوار بالدارجة المحلية كما هو الحال في أعمال حنان الشيخ وإدوار الخراط. فهما يضعان الحوار وراء الشخصيات والحبكة وراء ذات الكاتب. في حين أن الكلام في (فهرس) يتحرك مع التفاصيل في منطقة عازلة ومحايدة بنفس الطريقة التي اتبعها أرنست همنغواي. وهي طريقة اللغة الثالثة التي وضعت الأدب النخبوي بطبيعته في متناول القارئ العادي دون التضحية بمستوى الخطاب أو حكمته.

 

وعلى ما أرى هذا يمكن أن تعززه طبيعة الشخصيات الهجينة والملتبسة. إنها شخصيات بلا هوية عرقية ولا طبيعة معرفية جازمة.

 

ولنأخذ علاقة ودود ونمير كمثال.

 

إن ودود بائع كتب يتاجر بالثقافة ويحبها لدرجة أنه يصنع لنفسه مدونته الخاصة، وهي التي يشتق منها الكاتب عنوان روايته. بينما نمير يمتهن الثقافة ويتماهى معها. فهو أكاديمي وفي نفس الوقت كاتب روايات.

 

وبقليل من الاستطراد. إن لا شعور ودود يصعد عدة درجات بينما وعي نمير يقوده للهبوط نحو القاع عدة درجات. وهكذا يبني أول مستوى من مستويات الحبكة.. اللقاء بين اللاشعور الجريح والوعي الاغترابي في وسط المسافة.

 

ونفس التجربة تتكرر في علاقة مرايا ونمير.

 

فمرايا سوداء لكنها تنتمي لحضارة العرق الأبيض. أما نمير فهو أبيض ( جدلا - حنطي أو أسمر) لكنه من ضمن آلية منتجة لثقافة اغترابية نضفي عليها صفات عرقية أدنى. وإن العلاقة التي تجمعهما في سرير واحد لا تشبه على الإطلاق العقدة التي خرجت الرواية العربية من شرنقتها.  أقصد أن يغزو ابن المشرق نساء الغرب المستهترات حسب أطروحة جورج طرابيشي في كتابه المشهور شرق غرب ذكورة وأنوثة.

 

إن فكرة الغزو الشرقي لمخادع النساء الغربيات الجميلات تتداعى تماما في هذا الحوار القائم على فكرة الهجونة، وعلى التداخل المعرفي بين الأعراق وتعقيدات مكيانكية أساليب إنتاجها.

 

فمرايا متمرسة على تقطير روح نمير وعلى ملاحظتها من وراء حاجز غير شفاف هو جسده (ص 232). وبترجمة ذلك يمكن أن نقول: إنها كانت معنية أولا بشكل معرفته وليس بمعنى حضارته. وهذا يتيح  لغربها المؤنث أن يضمد جروح الحضارة الشرقية لا أن يزيلها ويشفيها ( ص 232).

 

ولذر الرماد في العيون.

 

حاول سنان أنطون استعمال بعض الشعارات المعادية للاستعمار وعودة الآلة العسكرية إلى بلادنا (انظر ص 17 وعبارات التنديد باليو إس آرمي - الجيش الأمريكي - المكتوبة على الجدران، أو كلامه عن الحرب في معلقة زهير بن أبي سلمى - ص 34). ولكن حصل ذلك بلغة باهتة، خافتة، لا يمكن أن يسمعها أحد حتى لو شحذ سمعه.

 

فقد كانت أمامنا مشكلة أسلوبية تتعلق بمصادر العمل كله.

 

هل كان سنان أنطون يكتب رواية غربية بالمعنى الكلاسيكي ولها بداية وعقدة وخاتمة؟.

 

أم أنه عمل على تفجيرها من الداخل بطريقة مدونة داخل مدونة؟.

 

كلا الافتراضين لا يصمدان لأن البنية أيضا تقوم على نوع من التحاور والمجاورة بين عدة أشكال وأنماط بدئية مع خيط حكائي ينتسب لطريقة رواية الشخصيات وليس رواية الأحداث.

 

وهنا لا بد من توضيح.

 

لقد كانت الرواية مشطورة إلى مستويين.. حكاية هجرة نمير واغترابه  ومعاناته مع ذاكرته المستعادة والمفقودة. وكانت توجد محطات استراحة بين الفصول هي قراءة في مدونة تركها ودود أمانة بين يدي نمير. وحتى هذه المدونة مشرذمة ومجزأة. فهي تستعمل الأساطير والخرافات والمرويات الشعبية لبناء فكرة عالم وهمي يسمح للأشياء غير العاقلة أن تتحلى بنفس قدرات الإنسان العاقل كأن تتكلم وتشعر بالشقاء والخوف والألم أيضا. ففي منطق الطير ينتاب هذه الكائنات الفرح أثناء التحليق ( ص9)، وفي منطق الزوراء تشعر المدينة بالحزن والكآبة لأنها بحاجة لأن تغتسل من عواصف الغبار (ص 36)، لكن في منطق الشجرة يبكي الجذع بعد أن تفترس لحاءه أسنان المنشار الحادة ( ص61).

 

وفي هذه المساحة الواسعة من الافتراضات النظرية والمتخيلة تتسع الفراغات التي يقول عنها الكاتب: إنها الثقب الأسود، أو العدم الذي ننجذب إليه، ونسعى لنسقط فيه (ص 265).

 

لا يمكن لأحد أن يجزم حيال الحكمة التي يحاول سنان أنطون الإيحاء بها.

 

ماذا يقصد بالفراغ الأسود؟.

 

الغربة التي تساهم في تشكيل وعينا المعطل، أم هو الأصل العرقي الذي يفقد نفسه في بوتقة حضارة استعمارية، أم أنها المثاقفة التي لديها وعي مختلف بلسانها وأدوات تعبيرها.

 

هذه الأسئلة تحتاج لعمل آخر يتخلى فيه سنان أنطون عن الاختباء وراء المرويات ليحدد مضامينه وأهدافه والأهم من ذلك المعاني المرجوة من رموزه.

 

 

 

* صدرت عن دار الجمل لأول مرة عام 2016 . 285 ص.

** مراسلات شخصية بتاريخ 21 أيار 2016 .

 

كاتب وناقد من سوريا

started 1 MAY 2010                 email : info@ila-magazine.com

design: gitta pardoel logo: modhir ahmed   © ila-magazine