الشجرة المغنيّة

قصي الشيخ عسكر

 

  هذه المرة لم نعرج عليها لنسمع غناءها الجميل !

  أذكر ذلك جيدا . في البدء انصرف ذهني إلى معان غير معقولة.  السيدات والسادة ، غداً نقف في أثناء عودتنا  عند الشجرة المغنية ... تلك الليلة فكرت بقصة اسطوريّة أو حكاية خرافية . كيف تغني الأشجار ؟. . قد تكون خدعة من لعب ابن آدم ، وسنعرف غدا سرّ تلك الشجرة الغريبة.

  كان ذهني منصرفا عن منهاج الرحلة إلى الشجرة نفسها. هل تشبه اشجار ايام زمان التي كان بعضها في الزمن السحيق يتكلم كما يتحدث الانسان والحيوان، فقد قيل لنا ذات يوم إن الاشجار تخلت عن الكلام ولم يبق لديها إلا دمع نراه حيسيل حين نخدش جذوعها . أتذكر أني دخلت مع الموكب القلعة ، تطلعت إلى السيوف وأدوات قديمة  ولعلني رأيت دروعا وملابس في مكان ما ... وربما صعدت في دولاب هوائي أو رحت مع من استقلوا زورقا وسط تيار جارف وأظنني شاركت في الرمي بالبندقية من مسافة قريبة. اخفقت أو ربحت ذلك لايهم مادمت قد اعتدت على المجيء إلى هنا ورؤية عالم المدينة القديم. مرة واحدة في السنة نعيش حياة الماضي ونحدق في تماثيل لانا س سبقونا  بحقب من السنين .، ثم نتوقف ونحن راجعون من رحلتنا تلك عند الشجرة العجيبة.

  الواقع لم تكن تلك الشجرة أسطورة أو عجيبة من عجائب الحكايات الخرافية . كذلك لم يكن مكانها ليبعد أكثر من نصف كيلو متر عن الفندق الذي نسكن فيه. كانت على ضخامتها وعلوها جرداء تنفرد عن صف الأشجار بقربها من حافة الطريق إذ اضطرّ حراس الغابة على مايبدو إلى إحاطتها بسور دائري لكي ينبهوا المارة وسائقي السيارات  إلى موقعها المنفرد ومزاحمتها للطريق العام.

  كانت أغصانها الجرداء تميل إلى جهة ما كما لو أ نّها تعايش رياحا تصارعها، لكنها كانت تغني فعلا.تغني بألحان وأصوات مختلفة. كان جذعها الضخم محفورا بفعل الزمن إلى خنادق ودوائر متباينة الاحجام . اندست  طيورفيها وشرعت بالغناء . خلال لحظة واحدة كنا نسمع هديلا ، وزقزقة ، وتغريدا ، والحانا أخر.

  كنت هذه السنة وحيدا من دون صديق . ويبدو أنني قمت بالعمل الروتيني ذاته الذي أديته العام الماضي . ركبت دولاب الهواء القديم. رميت بالبندقية من مسافة قريبة تطلعت في وجوه تماثيل كانت تعيش مئات السنين قبلنا... فلاحات... بائعي خضروات... نساجين...مزارعين... رأيت الدروع ذاتها والسيوف. هذه الرحلة أتطلع إليها من عام لعام.اقرؤ بعيني الماضي وأعايشه لسعات غير أن أحدا لم يذكر الشجرة المغنية بعد. مازال أكثر من ساعتين على مغيب الشمس . الشجرة الأسطورة لاتبعد عن الفندق كثيرا. لم يكن باستطاعة اي مخلوق أن ينقلها إلى المدينة القديمة.. . كم عمرها ياترى .؟

 

  دقائق معدودة وكنت هناك. كان عليّ أن أنتبه إلى الصمت المطبق الذي لف الغابة باستثناء عواء كلب يتهادى من بعيد ، وصوت مبهم أخاله لسيارة اجتازت الطرف الآخر من الشارع المحاذي للغابة.

  أصبحت أمام الشجرة .، ولم أسمع أي صوت . الألحان المتباينة انعدمت تماما. ليس هناك من هديل أو زقزقة ولا أيّ لحن آخر ، ربما لذلك لم يذكرها أحد هذا العام ، غير أني عرفت السر أخيرا. رأيت فروعاً خضراء نبتت لها من أسفل الجذع . كانت الخضرة تدب فيها صاعدة باتجاه الاغصان ، وحين أدركت الخضرة الشجرة ، هجرتها الطيور إلى مكان آخر ، فسكتت عند ذلك عن الغناء.

 

كاتب من العراق / الدنمارك

العمل المرفق للفنانة Gitta Pardoel

 

started 1 MAY 2010                 email : info@ila-magazine.com

design: gitta pardoel logo: modhir ahmed   © ila-magazine