الجرح العراقي في رواية "أرابخا" لكاتبها سعد السمرمد

د. صبري مسلم حمادي

 

وأنا أتوغل في عالم رواية أرابخا للروائي العراقي سعد السمرمد، تذكرت روايات عالمية وعربية تنتمي إلى أجواء مقاربة لتلك الأجواء التي نشأت فيها شخصيات رواية أرابخا. فهذه رواية يوليسيس لمؤلفها جيمس جويس، وقد صدرت بعد الحرب العالمية الأولى، تجسد خيبة أمل الروائي الآيرلندي جيمس جويس بالإنسان الأوربي الذي تحول فجأة وخلال الحرب العالمية الأولى إلى وحش كاسر وحيوان مدمر، حين أسفرت الحرب عن ملايين من الضحايا البشرية. ولا هدف من تلك الحرب سوى تلك الغريزة التي تتأصل في الإنسان، وترمز لها الأديان بشخصية هابيل أو قايين، وأعني بها غريزة المقاتلة. وبقدر ما كان يوليسيس أو أوديسيوس بطل أوديسة هوميروس – التي استوحى جيمس جويس منها روايته – بطلا منتصرا، كان (مستر بلوم) وهو يوليسيس القرن العشرين تافها وسطحيا يلهث خلف النساء، وكانت زوجته (مسز بلوم) التي تقابلها في الأوديسة بنيلوب وهي الزوجة المخلصة ليوليسيس وقد انتظرت زوجها عشرين عاما حتى عاد إليها وإلى مدينته إيثاكا وولده تليماك. في حين كانت مسز بلوم لا تطيق أن تنتظر زوجها عشرين دقيقة إذ ما إن تغلق الباب وراء زوجها مستر بلوم حتى تتواصل مع عشيقها. وعالج الروائي العراقي شاكر نوري المسألة ذاتها بطريقة أخرى في روايته كلاب جلجامش ، علما بأن الكلاب لم يرد ذكرها في ملحمة جلجامش أبدا ، ولكن شاكر نوري أراد أن يقول بأن هذه الاجيال التي تعيش في العراق لا تنتمي إلى جلجامش بأي شكل من الأشكال ، لأن جلجامش بنى حضارة رائدة وكان يعتز بالحياة إذ سعى إلى أن يخلد فيها كما تخلد الآلهة ، في حين أن العراقي الآن ولا سيما في ظل ظروف القهر والعوز والحرمان يفكر في أن الموت هو الحل ، وأما الخلود في حياة بائسة كهذه فإنه يشبه الخلود في الجحيم ، وفي هذه الحالة يصبح البحث عن الخلود عقيما تماما ، ولذلك فإن بطل رواية كلاب كلكامش للروائي العراقي شاكر نوري كان يبحث عن الموت وليس الخلود. وفي رواية الديلي فرانس كافيه للقاص والروائي العراقي عبد الإله عبد القادر نجد الموضوع ذاته، إذ يتفرق العراقيون شذر مذر خارج وطنهم، وإذا بهم في بيئة نائية مثل الفليبين وعاصمتها مانيلا وقد نقلوا ثقافاتهم وخلافاتهم على حد سواء، وفجأة ينتقل أحد كبار المحتالين من تلك البيئة النائية إلى وظيفة مهمة في إحدى الحكومات الجديدة ببغداد مدعيا بأنه دكتور طبيب وجراح أيضا وبشهادات مزورة. ولست بصدد استعراض كل تلك الروايات التي توقفت عند هذه المرحلة بل وددت أن أشير إلى أن رواية أرابخا عالجت المرحلة ذاتها ولكن بنكهة أخرى وبأسلوب مختلف جدير بأن نتوقف عنده. ولعل أبرز ما يميز هذه الرواية هو اشتغالها على أكثر من تقنية سردية، ومنها تقنية الفلاش باك أو الخطف خلفا باتجاه الماضي، ثم العودة إلى اللحظة الآنية التي يعيشها السارد داخل النص وبأسلوب تداعي المعاني بحيث يتوازى الحدثان وينسجمان من أجل إبراز لوحة الرواية الفنية التي توائم بين الماضي القريب والحاضر إذ لا تضاد بينهما، فماهذا الحاضر إلا نتيجة لذلك الماضي. وثمة سمة أخرى لهذه الرواية، وهي أن السارد يورد مقاطع شعرية في خاتمة مشاهده الروائية، وهي مقاطع شعرية دالة وذات علاقة وثيقة بالمضمون السردي ولا عجب من ذلك لأن المؤلف سبق أن أصدر ثلاث مجموعات شعرية للأطفال، وله أيضا مجموعة شعرية بعنوان "الفرح القروي" كما صدرت له مجموعة شعرية عام 2016 تحت عنوان "ما قالته السيدة المراهقة" وله أيضا مجموعتان شعريتان تحت الطبع إحداهما بعنوان "بائع الملح" والأخرى "ألواح السومري المتربة." يضاف إلى هذا كله أن الفن الروائي بطبيعته المرنة يحتمل ذلك بل قد يضفي نكهة خاصة للسرد الروائي وكما هو شأن هذه الرواية. ولأن مضمون هذه الرواية يرتكز إلى الجرح العراقي وإلى هموم العراقيين بكل أطيافهم، فإن أبطال سعد السمرمد وشخصياته تمثل العراق من شماله إلى جنوبه وبكل تنوعه العرقي الذي يفترض أن ينعكس إيجابا على مسيرته الحضارية، إلا أنه بدا مصدرا لكوارث إنسانية ومرتعا لاتجاهات عرقية وطائفية بغيضة. ويتجلى ارتباط رواية أرابخا بالجذور التراثية من خلال أرابخا بطلة الرواية التي يرمز اسمها لمدينة كركوك إذ يرد في مقدمة الرواية وبعد الإهداء مباشرة "واحد وخمسون ضلعا كشف من أضلاعها مصادفة ، حين بناها آشور زينها وسجد لها وقال: أرابخا مدينة الذهب" أرابخا ص9 ويفيد النص الروائي من حكاية شعبية تحكي عن مدينة أسطورية يحرم فيها التفكير ، وقد حور بطل الحكاية مقولة ديكارت " أنا أفكر إذن أنا موجود" إلى "أنا أفكر إذن أنا مقتول" أرابخا ص109 ، لأن تلك المدينة الأسطورية كانت تحرم التفكير ، وهو يرمز هنا إلى أجواء الحكم الدكتاتوري وسطوة السلطة المطلقة قبل أن تنفرط بقوة الاحتلال الذي لا يهمه مصلحة البلد ، كي تبرز النعرات الطائفية والعرقية المسيسة التي استغلت بساطة بعض الناس وتوغل الجذور الدينية إلى أعماقهم ممتزجة بالخرافة والأساطير ، تبريرا لأبشع صراع بين أبناء الوطن الواحد ، مما جعل الناس يتمنون عودة الدكتاتورية ، لأن الفوضى وغياب الأمان واستشراء الفساد أقسى من الدكتاتورية على الرغم من ويلاتها. ولم يؤخذ الروائي بالشعارات المتكررة التي تقول بأن العراقي هو سليل حضارة تمتد إلى ما لا يقل عن خمسة آلاف سنة مع أنها حقيقة وردت في هذا النص الروائي ضمنا ، بل نظر إلى الإنسان العراقي الآن وتحت ظروف قاهرة تذيب الحديد الصلب ، وبعد مرور أجيال من التجهيل والأمية والفقر ونشوء طبقات جديدة من المحتالين واللصوص والساسة الفاسدين ، بدا الإنسان العراقي وكأنه انعكاس لحكامه على الصعيد القيمي والأخلاقي والثقافي ، وهي حالة يمكن أن نلمسها في كل قطاعات الناس ووظائفهم ، وينطبق هذا حتى على الفنان والمثقف ، لا سيما أن بطلي رواية أرابخا كلاهما فنان ولكنهما زائفان ، على الرغم من أن كليهما يدعي بأنه يحب وطنه ولكنه حب زائف أيضا لأنهما خائنان . فأما أرابخا فإن خيانتها مزدوجة، فهي تخون زوجها مع الفنان الألماني فريدريك، -وهذه إشارة إلى الوطن المستباح إثر الاحتلال-من جانب ومن الجانب الآخر فإنها متعاونة مع زوجها الذي يمارس خيانة من نوع آخر إذ يزيف أعمال كبار الفنانين العراقيين المعروفين عربيا وعالميا ثم يسرق اللوحات الأصلية ويضع البدائل الزائفة لقاء مبالغ تافهة يدفعها لهم عماد وهو خائن آخر تحول فجأة إلى مناضل، وجاء بوظيفة وزير في إحدى التشكيلات الحكومية في مرحلة ما بعد الاحتلال. ويورد سعد السمرمد خلاصة دالة سعى إليها الروائي بوعي منه وعلى لسان بطله المحبط "لقد مارسنا أنا وأرابخا الخيانات المزدوجة، لا فرق بيننا، فنحن أنموذجان في قائمة الخوانين، وأن أعظم الخيانات خيانة الوطن". إذن تضع رواية أرابخا لكاتبها الروائي العراقي سعد السمرمد يدها على الجرح العراقي الآن ، وهو أن المشكلة ليست في الحكام الفاسدين فقط بل هي في الناس الذين ساعدوا الحكام على أن يكونوا كذلك ، بدءا بذلك الحاكم المهووس بالعظمة الذي أراد أن يعيد عصور الاحتلال والغزو ، وعدته في ذلك أجيال من الموهومين والمجرمين والخائفين على حد سواء ، وصولا إلى أجيال أخرى من المحتالين الذين يتخذون من الدين والطائفة قناعا وغطاء لأغراض دنيئة ومآرب شخصية لا علاقة لها بالصالح العام الذي يغير حياة الناس باتجاه الأرقى والأفضل . وربما يتساءل القارئ، إذن ما الحل؟ وهنا نعود إلى طبيعة الفن السردي الذي ليس من شأنه أن يضع حلولا بل يكفيه أن يعي المرحلة ويعبر عنها بصدق، وقد فعلت رواية أرابخا ذلك وباقتدار كما أعتقد. وثمة جوانب أخرى في هذه الرواية جديرة بالدراسة والتأمل، وهذا ما ستنهض به دراسات أخرى وفي إطار التوثيق الفني لهذه المرحلة العصيبة التي يمر بها وطننا الجريح، أملا في أن يتخطاها باتجاه غد مشرق، ولا يأس مع الحياة.

 

ناقد وأكاديمي من العراق / الولايات المتحدة

 

 

 

 

started 1 MAY 2010                 email : info@ila-magazine.com

design: gitta pardoel logo: modhir ahmed   © ila-magazine