الأبيض ليس فراغاً

عبد الله الهيطوط

 

 

إلى علي رشيد،

الساحر الذي يرسم بالبياض.

 

 الرسم هو أن نَمُرّ من الصراخ إلى الغناء "، بيير ديسفو- Pierre Desvaux

 

الرسم متاح يا صديقي، تقدم خذه ولا تخف. لولا فسحة الرسم لمتنا من الملل. مؤكد أننا نرسم لأننا نؤمن بالحياة، نحب الاحتفال بها، الرسم منقذنا وملاذنا. لقد كان الرسم دائما في صفنا. عندما تضيق الأمور وتستبد بنا الأشياء، ننسحب إلى الرسم، وما الرسم سوى ذريعةٍ للحياة ومحاولةٍ للعيش بسلام.

الكلام عن التجريد تعرض لكثير من الظلم والحيف. لا زالت تلك الجملة الهولندية الأثيرة ترن في أذني " لقد رمينا تراث أَنْجِلُو من النافذة "!! أعرف ماذا يعني هذا بالنسبة لرجل مخضرم مثلك، مسكون بهوى الشرق وجد نفسه، فجأة، وسط أروبا ما بعد الحداثة..

تدبير الفراغ واستثماره والإقلال وهيمنة البياض... تلك بعض المفردات التشكيلية التي قد لا يفهمها شرقنا الغارق في اللون والتفاصيل والكثرة... الشيء نفسه ينسحب عن إهمال العنونة. شخصيا، لا أشغل نفسي بالعنوان ولا بالتفكير في الأسلوب. الموضوع، في تصوري، ذريعة للرسم لا أكثر، إنه حيلة أو تَعِلة كي أصبغ أو أرسم.

لكن الرسم شيء والكلام شيء آخر. لهذا سرعان ما يلوذ الرسامون بالصمت.

الفنان مفكر بطريقته الخاصة، لأنه يشتغل على الإشكاليات البصرية وعلى القضايا الجمالية الكبرى مثل الضوء واللون والكتل... هناك من يعتقد أن الرسم امتداد للأدب، وبهذه الخلفية الأدبية يحاول تمثله، في حين أن باراميتر الرسم غير باراميتر الأدب، الأول طابعه فضائي والثاني زماني بامتياز. اللغة تقتضي التوالي أو التتابع successivement في حين يبقى التصوير مبنيا على مفهوم التجاور juxtaposition.

هناك تقاطع دائمٌ بين المحسوس والمجرد. كل ما نشاهده يتجاوز امتلاء المساحة مقابل فراغ المعنى. كل خط أو حركة أو نقطة أو لون يتم وضعه يملأ مساحة ما سواء كانت زمنية أو مكانية، حتى لو تعلق الأمر بمجرد مسمار مدقوق في جدار يكون كافيا لجعله مملوءاً عن آخره. إننا لا نحيط بالفراغ إلا من خلال الكتلة؛ من خلال المليء أي النقيض.

 بعيدا عن مفاهيم الفراغ الفلسفية الصارمة وتمثلاته الأدبية، ليس الفراغ مجرد بياض على بياض، كما أنه لا يتعلق هنا بإعادة تدوير البياض أو ابتكاره، المقصود دور الفراغ التقليدي داخل اللوحة، الذي يعمل على إراحة عين المتلقي والتقاط أنفاسه.

أما الرسم بالبياض فيقوم على رؤية مفادها أن نمزج الفراغ بالرسم. ماذا يعني كل هذا؟

إنه استعمال للبياض بعناية وتفكير مسبقين، وإلا فإن كل شيء يصبح فاسدا. إنه، بمعنى آخر، تفكير روحاني في العمل الفني.

يقول لَاوْ تْسُو: " الفراغ هو ما يجعل الأشياء نافعة. اصنع من الطين إبريقا. الفراغ الذي بداخله هو الذي يجعله صالحا للشرب. في فراغ الأبواب والشبابيك مصدر نفع للغرف. بعض المكاسب تأتي من الوجود. أما النفع الحقيقي فيأتي من العدم ". وفي مكان آخر،  تلخص الحكمة الطاوية الشرقية الأمر في الجملة التالية: " من يصنع في ذاته الفراغ،  يعرف السر الخفي للحياة، ومن لا يصنع في ذاته الفراغ، يعرف العشرة آلاف يوم للحياة فقط ".

نحن نرسم ثلثا أرباع الوقت بذهننا أكثر منه على القماش. في تجربتي، أحب أن أترك فسحات على لوحتي، وعلى المتلقي أن لا ينظر إليها باعتبارها فراغا، لأنه، قطعا، لا يوجد فراغ في الصباغة. عليه أن يرى فيكمل من روحه ما يعتبره فراغا. على المتلقي أن يرتجل كذلك.

أحب أن أنطلقَ من بعيد، من شيء يُعتبر تافها أو ميتاً، حتّى أصل إلى هنا حيث عالمي، حيث الحياة، وعندما أضعُ كولاجا فوقه، يصبحُ حيّاً أكثر. إن فعل الكولاج يعتبر ترميما روحيا، ترميما للخيال، وحيلة بصرية تأتي لتذكي غموض المعنى. أحب التحدي الذي يطرحه الكولاج، والإمكانات التي يفتحها أمامي. أظن أن مثل هذا الاختيار يوحي لي بغير قليل من الخطورة والمغامرة.

الاشتغال على الورق يتطلب من الفنان استدعاء مهارات متعددة ليست، بالضرورة، مهارات الرسم وحده.

 يُعجبني الاشتغال على الورق المكتوب مُسبقا. هذه الخلفية، التي تنتمي لحياة سابقة، أعتبرها بمثابة امتحان موجه ضدي أمام مُكون واقعي غير محايد، عليّ تطويعه لصالحي. من خلال حكاية الورق؛ من خلال تمزيقه وتكويمه وإلصاقه، يصبح عملا حميميا ودالا وشخصيا جدا، في الآن نفسه، يتحول إلى ما يشبه التوقيع المفرد.. لا يوجد شخصان يقومان بنفس الشيء.

إلصاق أشياء " منتهية الصلاحية " أو الاشتغال على حوامل فقيرة، هذا الاختيار لوسائط كانت منذورة للزوال، أحب أن أعكس بها نظرتي إلى الواقع الهش حيث أعيش. هذا التفكير في كل ما هو هش وفقير وسريع الكسر والزوال... هو كل ما يأسرني بصفة عامة، ويقود خطاي في صحراء الفن. أحب العودة، دائما، إلى بدايات الأشياء..

صديقي علي،

أحب أن أنهي هذا البوح الخجول بما تعلمته وأتعلمه من صباغتك وأقول: لا تقُل كل شَيْء، دَع لوحتك مُشرعة على الصمت.. أترك بياضاً كثيراً كي تتنفسَ رئات صباغتك جيداً، البياضُ ليس فراغاً... والسلام.

 

سلا الجديدة  في، 26 فبراير 20َ18.

كاتب وفنان من المغرب

 

started 1 MAY 2010                 email : info@ila-magazine.com

design: gitta pardoel logo: modhir ahmed   © ila-magazine